البروفيسور «ضمير» ورئاسة الحكومة الفلسطينية

بقلم: 

عندما يُفجع رجل بوطنه، وأبنائه الثلاثة مرة واحدة، ولا يقول سوى الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه، فهذا هو رامي الحمدالله الرئيس الجديد لمجلس وزراء فلسطين. ردود الأفعال الخارجية على توليه مسؤولية الحكم متعارضة. صحيفة «نيويورك تايمز» أبرزت صفاته الشخصية الإيجابية، ونجاحه في تطوير جامعة النجاح، و«جيروساليم بوست» ادّعت أن عبّاس ضرب عصفورين بحجر حين اختار الحمدالله، غير المعروف عالمياً، والذي لا يملك خبرة سياسية واقتصادية تؤهله لتحدي سلطته أو سلطة «فتح»، وتخلّص في آن من فياض الذي كان يعارض سياسات عباس، بما في ذلك قراره الحصول على مقعد دولة غير عضو في الأمم المتحدة.

وفي مقالة عنوانها «الحمدالله رجل طيب في مهمة انتحارية»، توقعت صحيفة «هآرتس» أن «يكتشف الحمدالله سريعاً أنه وحيد في مهمته». فعباس غير مهتم بالأمور اليومية لإدارة السلطة الفلسطينية، «فيما سيكون على الحمدالله مواجهة أزمة صباح كل يوم». والمهمة الرئيسية أمامه الآن تدبير مرتبات موظفي السلطة وأجهزة أمنها و«لأجل ذلك عليه إقناع الولايات المتحدة والدول الأخرى الداعمة أنه جدي، ونزيه، وشريك خال من الفساد». وتتوقع الصحيفة أن يجتاز الحمدالله هذه الأزمة كما اجتاز عام 2000 مأساة حادث اصطدام سيارة زوجته بحافلة عسكرية إسرائيلية أودت بحياة أولاده الثلاثة الذين تتراوح أعمارهم بين 9 و11 سنة، وفقدت زوجته الوعي فترة ستة أشهر.

والحمدالله أستاذ في اللسانيات، وقد استهل مراسل «نيويورك تايمز» في القدس تقريره بعرض دراسة الحمدالله للألقاب الفلسطينية، والتي وجدها 12 صنفاً، بينها أسماء حيوانات، وأطعمة، وأدوات، ومهن، وظواهر طبيعية، ومواصفات شخصية. وأضاف المراسل لقباً جديداً وهو «ضمير» كتبه بالإنجليزية بنطقه العربي، وذكر أن الثري الفلسطيني المعروف عالمياً «منيب المصري» أطلقه على الحمدالله «الحريص على بلده، والحريص على شعبه، والحريص على الجامعة». هل يحقق الحمدالله لبلده وشعبه النجاح الذي حققه لجامعة النجاح، والتي تضاعف عدد طلابها ثلاثة أضعاف، خلال 15 عاماً من توليه رئاستها، وأفلح في إنشاء حرم جامعي جميل قائم كمنحوتة من الحجر الأبيض في أعلى تل بنابلس، يطل على تل أبيب من مسافة 48 كلم. ويضم الحرم كليات للطب، والهندسة، والعيون، والتمريض، ومحطة إذاعية وتلفزيونية، ومركزاً للانتخابات العامة. وجامعة النجاح غير حكومية، ونفقات إنشائها البالغة 300 مليون دولار جمعها الحمدالله من التبرعات الخيرية للفلسطينيين والعرب، فماذا يمكن أن يحقق بأموال مساعدات التنمية لفلسطين البالغة أربعة مليارات دولار؟

قد يتبع الحمدالله في الحكم تسع مواصفات حددها في دراسة علمية، وهي: «لا تظهر انفعالاتك، وكن مستعداً للكلام وإبداء سرعة الخاطر، وذاكرة جيدة، ومعرفة لغتين أجنبيتين على الأقل إلى جانب اللغة الأصلية، ومعرفة واسعة للشؤون السياسية والاقتصادية والعلمية الحالية، والسرعة في إصدار القرارات ومعالجتها خلال أجزاء من الثانية، ودرجة عالية من التركيز». دراسة الحمدالله منشورة بالإنجليزية في المجلة المحكمة «اللغة والترجمة» الصادرة عن جامعة الملك سعود، وعنوانها «مشكلات واتجاهات الترجمة بالرجوع إلى العربية»، وليس المقصود بها قواعد الحكم، بل الترجمة الفورية. ويعرف كل مترجم فوري أن عليه معرفة ما يعرفه الذي يترجم له. وأطراف الترجمة كما يحددها الحمدالله في دراسته أربعة: «المؤلف، والقارئ الأول، والمترجم، والقارئ الثاني».

وعلم اللغة مبحث علوم عدة؛ إنسانية، وفيزيائية، وبايولوجية، بينها فيزياء الصوتيات، والأنثربولوجيا، وعلوم الكمبيوتر، والإنفورماتيك، والفسلجة، والأعصاب، وأمراض الكلام والنطق، إلى جانب مباحث اللغة التقليدية، كالنحو، والصرف، والمعاني، والإشارات. وفي القرن الثامن الميلادي كان أبرز اللغويين العرب الخليل بن أحمد الفراهيدي عالماً بالرياضيات، واعتمد في أهم مؤلفاته، وعنوانه «العين»، تصنيفاً استنفادياً قبلياً يُعيُن اللغة الممكنة، ومنها يستخرج جميع كلمات اللغة الحقيقية، ويعتبر دراسته «ضرباً من الحساب».

وإذا استخلص الحمدالله بالطريقة نفسها صورة الحكم مسبقاً فلن تكون حكومته، كما يتوقعونها، انتقالية لتسيير الأعمال لحين اتفاق «حماس» و«فتح» في أغسطس القادم. فهو سيبلغ 55 في أغسطس، أي عمر الورود بالنسبة لرئاسة الحكومات، وبالنسبة للأكاديميين عمر اكتشاف ثنائية العلم والعمل السياسي. وقد تولى الحمدالله مسؤوليات أكاديمية عدة في جامعة النجاح منذ أن التحق بها كمدرس للغة الإنجليزية عام 1982، إضافة إلى مسؤوليات قيادية في منظمات أكاديمية عربية ودولية عدة، وشغل مواقع مهمة في إدارة الدولة والمجتمع، بينها أمين عام لجنة الانتخابات المركزية منذ عام 2002، وعضو لجنة الدستور الفلسطيني، ومجلس أمناء مؤسسة ياسر عرفات، ورئيس مجلس إدارة بورصة فلسطين منذ عام 2003.

وكما في أطروحة الفيلسوف الألماني ماكس فيبر عن «العلم والسياسة بوصفهما حرفة»، يمارس الفلسطينيون العلم باعتباره معرفةً وتقنية وتقدماً واحترافاً، ويمارسون العمل السياسي باعتباره مشاركة في إدارة الشأن العام، وباعتباره حرفةً واختصاصاً. والاحتراف والإحساس بالرسالة ضروريان في كل هذه الحقول والمهام، في المجال العلمي، كما في المجال السياسي والإداري. وقد رأينا ذلك في «المؤتمر الدولي لتكنولوجيا النانو» الذي نظمته جامعة النجاح العام الماضي.

وفي فلسطين نكتشف شغف فلسطينيي الداخل بفلسطين أشد من شغف فلسطينيي الشتات بها، وهذا ما يحطم القلب. فاجأتني بذلك رسالة الحمدالله التي بعثها لي عبر الإنترنت عقب نشر مقالي هنا عن عالم الطب والنفس علي كمال، حيث قال: «أثار المقال مشاعر الحنين إلى ماض جميل، وذكريات لا يمكن أن تمسح من الذاكرة». ولم أكن أعرف آنذاك عندما مررت ببلدة علي كمال، «عنبتا»، أنها بلدة الحمدالله أيضاً، وأن علي كمال خال أبيه.

وإذا كانت «اللغة أرشيف التاريخ»، كما يقول الفيلسوف الأميركي أمرسن، فإن الترجمة من وإلى اللغة العربية أرشيف تاريخ أبرز الحضارات العالمية التي نشأت حول البحر المتوسط. وفي ورقته خلال «مؤتمر تكامل ساحلي البحر المتوسط» المنعقد في إيطاليا عام 2006، ذكر الحمدالله أن اسم أوروبا مستخرج من كلمة «إرب» الفينيقية، و«غرب» العربية، واستشهد بعبارة ذكر أن ممثلاً سورياً يرددها في إحدى عروضه الهزلية تقول: «إذا أردت أن تعرف ما يجري في روما فعليك أن تعرف ما يجري في البرازيل». وهذه من آثار العولمة حسب رأيه. وفي فلسطين علمتُ أنك إذا أردت معرفة ما يجري في فلسطين فعليك معرفة ما يجري في إسرائيل، وبالعكس. وبعد 65 عاماً من تأسيسها يكشف أبرز المؤرخين الإسرائيليين اختلاق الشعب اليهودي، واختلاق دولة إسرائيل، وهذا ما حققه وعد بلفور؛ محرقة تاريخية، وروحية، وأخلاقية، ونفسية، وليس في معسكرات اعتقال مسوّرة، بل في كل مكان.

 

 

المصدر: 
الاتحاد