تهويد الدولة العربية

بقلم: 

ماذا يمكن المرء أن يفعل عندما يشعر أن البلاد على وشك أن تنزلق من بين عينيه، وهو لا يملك حتى أن يغمضهما قبل أن تنزلق؟ هذا شعور مَن يطوي الليل اللبناني - السوري، بل العربي مطلقاً، حاملاً معه في باصرتيه المغمضتين أوزار المشاهدات والمصائر المفجعة. وهو أيضاً شعور مَن يوقظ الفجر، حاملاً معه في عينيه المبحلقتين أوزار النوم المثقل بالكوابيس القيامية.

الخطة دينية، أبطالها الدولة اليهودية في فلسطين المحتلة، الجمهورية الاسلامية في ايران، نظام البعث مختصراً بعشيرة الاسد، "حزب الله" في لبنان، انزلقت اليها الثورات العربية، وخصوصاً التونسية والمصرية، وتورّط فيها الإسلام السياسي العربي، التقليدي والظلامي، لشلّ القوى الحية، الديموقراطية، المدنية، الليبيرالية، وجعل المواجهة الأخيرة تجري بين الأنظمة الديكتاتورية والبدائل الدينية، من وليّ فقيه وتكفيريين
الهدف: اغتيال حلم الدولة العربية الديموقراطية وتفريغ العالم العربي من تنوّعاته المدنية والثقافية، وأسلمته، شيعةً وسنةً، تمهيداً لتهويده، وانجاحاً للمشروع الصهيوني في المنطقة العربية.
ليس أدلّ على هذه الحال، من أوجاع الناس الحقيقيين، لبنانيين وسوريين وفلسطينيين، قتلى وأحياء، حالمين، تائقين إلى الحرية، مشرّدين، لاجئين، نساء، شيوخاً، أطفالاً، شبّاناً، رازحين تحت وطأة الابتزازات الجهنمية، بأبصارٍ شاخصة، تشهد على الجريمة الكاملة، لكنها لا تستطيع أن تدمل نظرة جريح، ولا أن تؤوي حلماً إلى قتيله
لن أسترسل في ما لا فائدة منه. لن أصف الهول. فالهول يصف نفسه. سوريا تئنّ تحت الخراب. لبنان أيضاً. هل من حاجةٍ للكلام عن فلسطين؟! عن مصر؟ عن العراق؟ عن تونس...؟ الكلّ، شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، يتلمّظ بهذا الهول العربي، ويطالب بالمزيد من الدم. لكأن الكلّ يتماهى مع غرائز الإله التوراتي.
العالم وحش: الدول، الأنظمة، الديكتاتوريات، التيوقراطيات، الديموقراطيات، الحكّام... كلّهم متساوون في الهمجية، وإنْ تعددت الأقنعة. أنظمة البعث والملالي وولاية الفقيه والإخوان وتيارات السلفيين والإسلامويين الظلاميين التكفيريين هنا، في دنيا العروبة والإسلام. أميركا وروسيا هناك، في دنيا العالم الأول "المتحضر". معهما الأتباع والأذيال. الكلّ، عجباً، حلفاء موضوعيون، أحبّاء وأصدقاء
لن أصف الكيان الصهيوني. تكفي خيالات الدم الواصلة إلينا شلاّلات. إله التوراة ينوب عن كل وصفٍ إضافي حديث. أرى الصهيونية في كلّ مكان من روح هذا العالم. هي عقله، قلبه، وهي يداه. تحكم وتتحكّم. تنظّم الوجود، وتملي المصائر في هذا الشرق الأوسط الجديد.
أما قادة الطوائف والمذاهب، آلهتها وشعوبها، المهووسة بالخرافة والسيطرة والقتل، فهي – وإن ادّعت العكس - مرايا هذه الصهيونية، ووجهها الآخر. تمحق بلداننا وأحلامنا. تجرشها. بل تهرسها هرساً بين الأنياب.
كلما بزغ فجرٌ عربي، في لبنان، في سوريا، في مصر، في العراق، في تونس، أو في فلسطين، امتدّت يد الصهيونية، إسرائيليةً أكانت، أم عروبوية، أم إيرانية، أم أقلوية، أم إسلاموية، أم أميركية دولية، لتقطف زهرة هذا الفجر الموؤود، وتستأصل جذورها التي تذهب بعيداً في ضمير التراب ووجدانه.
هذه هي الحقيقة الصهيونية، المتجددة، التي ترتدي ألف لبوس ولبوس. هي حروب الإيديولوجيا الصهيونية، لكنْ بأيدٍ إسلاموية، عربية وإيرانية، ودولية، تعلنها الطوائف والمذاهب في كلّ مكان، تحقيقاً لمشاريعها المستقبلية. فمَن يستطيع أن يقف في وجه هذا الرعب الديني؟ لا أستثني أحداً: نظام البعث، طوائفه، أقلياته، مؤيدوه، وحلفاؤه. نظام الملالي والوليّ الفقيه الإيراني وامتداداته الإلهية اللبنانية. الظلاميون، المحليون والإقليميون، من أتباع آلهة النفط. جميعهم سواسية. وجميعهم أدوات في أيدي الصهيونية. المجتمع الدولي، أو العالم الحرّ (يا عين!) يقدّم برهاناً تلو برهان، على هذا التصوّر القيامي، ما يحمل الذين لا مرجع لهم سواه، على الكفر به، وبمعادلاته الموصومة بالعار والخزي والمصالح الدنيئة. تبّاً لمجتمع دولي حرّ كهذا.
قد لا يستطيع أحدنا في هذه اللحظات القاتلة، وخصوصاً الثائرين الأحرار، والمدنيين الديموقراطيين الليبيراليين والعلمانيين، أن يفعل شيئاً نوعياً حاسماً، جديراً بأملٍ يشقلب المعادلات التي تفرضها هذه الصهيونية القديمة الجديدة علينا، على رغم كلّ ما يفعله هؤلاء الأشاوس الأحرار، السوريون واللبنانيون والفلسطينيون والمصريون والعراقيون والتونسيون، وسواهم، لكسر المعادلة القيامية، والخروج منها إلى أفق الحرية والديموقراطية والدولة المدنية. لكني، على رغم هذا الانزلاق القيامي الإسلاموي في الأشداق الصهيونية، سأطلب مرةً أخرى، عدم الرضوخ، بل الوقوف في وجه المقتلة، الكثيرة الأيدي والرؤوس العروبوية والإيرانية والإسلاموية، وخصوصاً في وجه مَن في يديه آلاتٌ مدمِّرة ماحقة، ومَن تستولي على عقله وقلبه روحُ الاستبداد والغلبة والعجرفة والصلف وإلغاء الآخر.
يهمّني في شكل خاص، أن أقول إن الوقوف أمام العدم القيامي هذا، من شأنه، وحده ربما، أن يشكّل عامل اضطرار وجودياً وكيانياً، لا رادّ له، يحمل اللبنانيين والسوريين، قبل سواهم، على الوقوف جميعاً أمام الحائط، بحثاً عن حلّ ينقذ البلدين من الضياع والتفتت والتذرر، في غمرة العواصف الوجودية التي تضرب المنطقة، وتعيد النظر في مكوّنات بلدانها، وجغرافياتها.
أقصى أماني الصهيونية، أن تُغتال الدولة في لبنان، وأن تتفكك سوريا على مذبح المذاهب والطوائف. العراق أيضاً. ومصر. هي بذلك تجد "مرتزقة"، أقلويين، خلاصيين وإلهيين، يفتحون الطرق أمام "أسلمة" فكرة الدولة في العالم العربي برمّته.... بل تهويدها
الدولة اليهودية في فلسطين شبه منجزة. لقد استولت إسرائيل الصهيونية على فلسطين، وتكاد تهوّدها عن بكرة أبيها. لبنان في طريقه إلى التهويد "الإسلاموي"، بشقّيه. كذا أقول عن سوريا، وبلاد الشام كلها، وبلاد ما بين النهرين، ووادي النيل. كل هذه الأرض السائرة بشكل حثيث نحو التهويد، ستصير قريباً فلسطينات عربية "سليبة". لكأن الفكرة القيامية "أرضكِ يا اسرائيل من الفرات إلى النيل"، تبصر النور، ولكنْ، هذه المرة، من طريق العرب والإيرانيين أنفسهم، وبأيدٍ إسلاموية
أسأل: هل نجحت خطة الأسلمة – التهويد، المرسومة أعلاه، أم هي في طريقها إلى النجاح؟ أجيب: الله، يحشرج بين براثن هذه الخطة الجهنمية؟ فمَن ينقذ الله وأهله العرب من حشرجات الأسلمة والتهويد؟

المصدر: 
النهار