مصر و«حماس»... والقنابل الموقوتة

بقلم: 

يُفترض أن تكون العلاقات الرسمية بين الحكومات قاطرة أو رافعة للعلاقات بين الشعوب خاصة عندما تكون هذه الشعوب مؤمنة بالخير الذي يحمله التطور الإيجابي للعلاقات الرسمية، ولكن الخبرة العملية تتباين من حالة إلى أخرى، إذ أنه منذ نشأة حركة «حماس» في منتصف ثمانينيات القرن الماضي كانت السلطات الرسمية المصرية تشعر بعدم ارتياح لأن هذا التنظيم الجديد يُمثل تحدياً للسياسة المصرية تجاه الصراع مع إسرائيل، والتي كانت قائمة على مبدأ التسوية السلمية، وخاصة أن المسؤولين عن هذه السياسة كانوا قد بدأوا يشعرون باستقرار بعد أن قبل العرب جميعاً اعتباراً من قمة فاس لعام 1982 -بمن فيهم منظمة التحرير الفلسطينية- سياسة التسوية السلمية. أما القوى السياسية والشعبية فقد انقسمت في موقفها من «حماس» تبعاً لموقف هذه القوى من إسرائيل، فمن كان يعتبر أن السلام مع إسرائيل خرافة وأن الصراع لن يُحسم إلا بالحل العسكري، نظر إلى نشأة «حماس» بارتياح، أما من كان مؤمناً بجدوى التسوية السلمية فلم تختلف نظرته إلى نشأة «حماس» عن نظرة السلطات المصرية كثيراً، وهكذا سار سيرها في الرفض غير المباشر لتوجهات «حماس» وممارساتها، والارتياح لانحياز النظام السابق لـ«فتح» سواء في محاولات التوصل إلى صيغ أو آليات لتسوية الصراع أو في مسألة علاقة «حماس» بالخارج وعدم الدفاع الكافي عن تهمة الإرهاب الموجهة إليها. وتبقى قوة ثالثة لابد أن يحظى موقفها من «حماس» باهتمام خاص لأنه سيساعدنا كثيراً في فهم تطور العلاقات المصرية معها بعد ثورة يناير2011. تلك هي القوى المُمثلة للتيار «الإسلامي» وعلى رأسها جماعة «الإخوان المسلمين» التي كانت تعرف جيداً أن «حماس» فرع من فروعها خارج مصر، ولذلك وجب دعمها بكل الطرق الممكنة. وبدا وكأن «الإخوان المسلمين» يقاتلون ضد الاستبداد في النظام المصري السابق فيما كانت «حماس» تصارع الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية ومشاريع الاستيطان الصهيوني المسعورة في هذه الأراضي.

وهكذا بدا المشهد عشية قيام ثورة يناير في مصر التي لعب «الإخوان المسلمون» دوراً مهماً فيها بعد بدايتها بأيام قلائل، وبعد انتصار الثورة شهدت المرحلة الانتقالية على نحو مفاجئ تراجعاً للقوى المحركة لها بعد أن اختلفت وتشرذمت على نحو محبط، فيما تقدم الصفوف بالتدريج «الإخوان المسلمون» أصحاب الخبرة التنظيمية الهائلة التي تجاوزت الثمانين عاماً، وصولاً إلى الفوز بمنصب رئيس الجمهورية حيث تسلم سلطته من «المجلس العسكري» الذي كان يمسك بدفة المرحلة الانتقالية بإحكام حتى آخر يونيو 2012، لينقلب بعد فترة وجيزة على «المجلس العسكري» ويُعين قائداً عاماً جديداً للقوات المسلحة، ويبدو في غياب سلطة تشريعية منتخبة أنه أصبح ممسكاً بكافة خيوط السلطة، أي أن الحكم في مصر أصبح لـ«الإخوان المسلمين».

وهكذا أصبح المشهد بعد تولي رئيس الجمهورية المنتمي لـ«الإخوان المسلمين» منصبه وتمتعه بسلطات يحسده عليها أي ديكتاتور. وكان الأمر المنطقي أن يبادر بترجمة العلاقة التنظيمية والعقيدية بين «الإخوان» و«حماس» إلى أفعال محددة بدأت بالدعم السياسي الواضح لـ«حماس»، وزيادة المساعدات المصرية لها بشكل ملموس في مجالات حيوية كالطاقة والدواء والغذاء، وهو عمل يُشرّف أي سياسة خارجية عربية، غير أن المعضلة أنه تم في وقت كان الشعب المصري يعاني فيه من أزمات في هذه المجالات تحديداً حتى لقد رفعت إحدى المظاهرات التي كانت تعترض على تردي الخدمات شعار «كفاية غزة منورة» بما يعني أن غزة تتمتع بطاقة كهربائية لا يتمتع بها المصريون. وكانت هذه هي أولى مشكلات النظام الجديد فيما يتعلق بسياسته تجاه قطاع غزة، وهي أنه لم يأخذ بالحساسية الكافية مسألة أن كل المصريين لم يكونوا من أنصار «حماس» مع أنهم في المعتاد من أنصار القضية الفلسطينية. وبدت هذه أول قنبلة موقوتة في العلاقات المصرية بـ«حماس»، بمعنى هل المساعدات التي تقدمها مصر لـ«حماس» مساعدات لشعب فلسطين أم لحركة «الإخوان المسلمين»؟

ثم أخذ المشهد يتعقد أكثر عندما أعيدت إثارة عدد من القضايا غير المألوفة كان على رأسها قضية اقتحام سجن وادي النطرون وتهريب المسجونين والمعتقلين فيه، إذ أدى التحقيق في هذه القضية الخطيرة إلى توجيه اتهامات محددة لحركة «حماس» بالمسؤولية عن هذا العمل من جهات رسمية وعناصر غير رسمية كانوا جميعاً في قلب المعركة، وبطبيعة الحال نفت «حماس» أي دور لها في هذا الصدد، ولا ينبغي أن ننسى أنها كان لها سجناؤها الذين تم تحريرهم ووصلوا قطاع غزة وأذيعت مشاهد استقبالهم على فضائيات القطاع قبل أن يصل ضباط الشرطة الذين كانوا في قلب المعركة إلى بيوتهم. وكان هناك أيضاً سجناء ومعتقلون تابعون لـ«حزب الله» وتنظيم «القاعدة» حدث معهم الأمر نفسه، ولا يدري المرء ما الذي يمكن أن يحدث لو انتهت القضية المنظورة الآن أمام محكمة جنح مستأنف الإسماعيلية بإدانة «حماس»، وخاصة أن رئيس المحكمة يصر على حسم القضية قبل الإجازة القضائية بحلول نهاية يونيو المقبل؟ من هنا بدأ الشك يتسرب إلى عقول كثيرين فيما يتعلق بمسؤولية «حماس» عن كثير من أعمال العنف التي شهدتها مصر أثناء أحداث الثورة وبعدها بدءاً من التفجير المنتظم للأنبوب الذي كان ينقل الغاز لإسرائيل ووصولاً إلى أمور أخطر بكثير مثل التلميح إلى مسؤولية «حماس» عن قتل الجنود المصريين الستة عشر في رمضان من السنة الماضية كنوع من إثبات تراخي «المجلس العسكري» السابق، بما يساعد رئيس الجمهورية على الانقلاب عليه. وبطبيعة الحال نفت «حماس» هذه الاتهامات نفياً قاطعاً، غير أن المشكلة كما سبقت الإشارة أن الشك قد تسرب إلى العقول، وأن قطاعات واسعة من الرأي العام المصري بدأت تكوّن لها منظومة ذهنية تستوعب كل هذه الشكوك، بل وتزيد عليها بغير أساس. والسؤال الخطير هنا ما علاقة «حماس» بالتنظيمات المتطرفة التي ترتدي لباساً دينياً وتقوم بممارسات لا علاقة للإسلام بها من قريب أو من بعيد، وإنما هي تشبه ممارسات عصابات الإجرام، وبهذا ربما تكون «حماس» بعيدة عن أي فعل لا تقوم به بنفسها، وإنما يمكن أن تستخدم لتنفيذه تنظيمات «معاونة» أو تابعة لها تنظيمياً.

وفي الآونة الأخيرة التي شهدت اختطاف سبعة جنود مصريين ساد الغموض الأزمة من بدايتها إلى نهايتها، فلم نعرف أشياء محددة عن هوية الخاطفين أو الأطراف المشاركة في التفاوض لحل الأزمة، وكيف انتهت الأزمة هذه النهاية السعيدة غير المتوقعة. ويلاحظ أن الاستجابة لمطالب الخاطفين كان من شأنها أن تكون معولا إضافياً في هدم الدولة المصرية، إذ سيصبح على كل مجرم أن يقوم بجريمته ضد المجتمع وهو آمن من العقاب، وليس أسهل من أن يقوم زملاؤه المجرمون باختطاف هذا أو ذاك ليخرج بفعلته دون أن يمسه سوء. ويبقى أخطر ما في الموضوع، وهو أن تحويل القضية الفلسطينية من قضية «أمة» إلى قضية «إخوان» يقلص مؤيدي القضية وهم الكافة إلى مؤيدي «الإخوان» وهم أقلية، وهي خسارة استراتيجية فادحة للقضية. وقد بُني المقال على ما لم يثبت بالضرورة أنه حقائق لكنه يحيط بنا في الهواء الذي نتنفسه ثقيلاً، فلتكن جهودنا جميعاً في اتجاه إثبات الحقائق والعمل على ترشيد المسار.

المصدر: 
الاتحاد