فلسطينُ... القلبُ الذكي الجميل

بقلم: 

هذه المرأة الكويتية الثرية المنمنة ذات الضحكة الطفلة المعابثة لم أكن أعرف سر ساعات طويلة تقضيها في مركز الوثائق البريطانية قرب حدائق «كيو جاردن» جنوب لندن، ولماذا تخرج بعدها داكنة كعاصفة رملية خليجية، وتنطلق بحصانها في متنزه ريتشموند. وعندما دعوتها بعد ذلك، مداعباً لنزهة على الدراجات على ضفاف نهر التايمز فاجأتني بالموافقة، وبالضحكة الطفلة المعابثة. وعندما قرأتُ أطروحتها للدكتوراه من جامعة مانشستر عرفتُ كيف يتعايش الجحيم والفردوس في قلب نساء العرب.

عنوان الأطروحة بالإنجليزية «الثقة المحطّمة: هربرت صامويل والصهيونية والفلسطينيون»، وعنوان الطبعة العربية الصادرة عن «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» أكثر أمانة لمضمونها: «التأسيس البريطاني للوطن القومي اليهودي: فترة هربرت صامويل 1920-1925». وهذا جحيم وفردوس مؤلفة الكتاب، الباحثة الكويتية الفلسطينية الأصل «سَحَر الهنيدي». لقد اكتشفت الحلقة المفقودة ما بين وعد بلفور وتأسيس إسرائيل؛ فردوس الباحث الذي اكتشف الجحيم. والبحث العلمي في نكبة فلسطين التي صنعتها الإمبراطورية البريطانية، جحيم مكتوب على بابه -حسب الفيلسوف ماركس- «هنا ينبغي أن تكون الروح صلبة، هنا لا ينبغي الانصياع لهواجس الخوف». هكذا اقتحمت الهنيدي أرشيفات وزارات المستعمرات البريطانية، والخارجية، والحرب، ومجلس الوزراء، ومقر القيادة العامة. الوثائق التي استلّتها من الأرشيفات تبرهن على أن وعد بلفور لم يكن هو الذي أنشأ إسرائيل، بل هربرت صامويل، أول مندوب سامي بريطاني في فلسطين. كان صهيونياً متطرفاً يتخفى تحت ستار الدفاع عن مصالح الإمبراطورية البريطانية. وكشفت الهنيدي أن وعد بلفور كان يمكن أن يظل مجرد وعد من دون صامويل، الذي عمل خمس سنوات بخبث لشقّ صفوف الفلسطينيين، وَوَضع بدهاء الهياكل الارتكازية القانونية، والإدارية، والمالية، لتأسيس إسرائيل، وكانت نسبة اليهود آنذاك أقل من خمسة في المائة من سكان فلسطين.

«ويُذَّكرنا كتاب سحر الهنيدي بأن الصهيونية والمشكلة الفلسطينية سبقتا الهولوكست وحرب عام 1948 العربية الإسرائيلية بوقت طويل». يذكر ذلك المؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي في مقدمته للكتاب، الذي يعتبره «أول كتاب عن هذا الموضوع يجمع بين دفتيه مثل هذا التنوع الواسع والخصب للمصادر الأساسية». وبالإضافة إلى المصادر الأرشيفية ومذكرات الفاعلين البريطانيين، احتوى الكتاب مواد منشورة وغير منشورة للحركة الوطنية الفلسطينية، و«دمجت المؤلفة بنجاح النتائج التي خلصت إليها أجيال من الباحثين»، حسب الخالدي الذي يشير إلى إنجاز الهنيدي في العثور على «حلقة وصل بالغة الأهمية بين صهيونية ما قبل وعد بلفور وصهيونية ما بعده».

وبحث الهنيدي ليس إعادة كتابة التاريخ، بل صناعة التاريخ، وهو في عصر المعلومات صناعة خطيرة. فالحقائق التي كشفتها أطروحتها عام 1995 مشت كالحصان خبَبَاً في مسيرة أكاديمية دولية بلغت حتى المؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية. «اختلاق الشعب اليهودي» و«اختلاق أرض إسرائيل»، كتابان للأكاديمي الإسرائيلي «شلومو ساند»، صدرا خلال السنوات الثلاث الأخيرة، يبرهن فيهما «ساند»، أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب، أن لا وجود لقوم اسمهم الشعب اليهودي، ولا صلة نَسَب إثنية تربط بين اليهود، ولا لغة مشتركة، والعبرية لم تكن تُستخدمُ إلا في الصلاة، ولم يكن لها وجود حتى في عهد السيد المسيح، واللغة «اليّيدية» لهجة ألمانية تضم خليطاً من كلمات عبرية وسلافية. وأشنع من ذلك كله أن معظم اليهود، بمن فيهم الصهاينة، لا يريدون قط العودة لما يُسمى «الأرض الموعودة».

وإذا كان صحيحاً ما يقال أن ليس كقوة المرأة عندما تتسلح بضعفها، فمَن أقوى من امرأة فلسطينية كويتية مسلحة بفلسطين. سَحَر الهنيدي مؤلفة، وفنانة في التصوير الفوتوغرافي، وصورها الجميلة عن القدس احتلت أغلفة المجلات. وهي مؤرخة، صدر لها كتاب بالإنجليزية عنوانه «وعد بلفور في الوثائق البريطانية... رؤية جديدة لخلافات قديمة». وترجمت الهنيدي للعربية كتاب كيث وايتلام «اختلاق إسرائيل القديمة وإسكات التاريخ الفلسطيني»، وعملت لعشر سنوات في «المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب» في الكويت، حيث تولت إدارة تحرير سلسلة كتب «عالم المعرفة»، وأسّست في عام 2009 دار نشر «إيست آند ويست» (شرق وغرب) في لندن، والدار تهتم، كما يدل اسمها، بالعلاقة الجدلية بين الشرق والغرب. باكورة كتبها «خارج الجزيرة العربية: الفينيقيون والعرب واكتشاف أوروبا». وفيه يتقصى واريك بول، المتخصص بآثار المنطقة العربية عروق «أوروبا العربية» التي ضمت خلفاء شقر زرق العيون، كعبد الرحمن الثالث، الذي يعتبر من أبرز حكام الأندلس في عصرها الذهبي، والإمبراطور الروماني الأسمر ماركوس فيليبوس، المعروف باسم فيليب العربي، وأصله من بلدة شهبا جنوب سوريا. وأحدث كتبها «آه الشرق!» عن الرحالة والمستكشفين إلى الشرق الأوسط للفترة بين 1600 و1940، ومؤلفه «سي بوزوورث»، أستاذ الدراسات العربية في جامعة مانشستر. والكتاب القادم «تحفة الرسم العربي»، يضم رسوم «مقامات الحريري»، للفنان الواسطي الذي عاش في بغداد خلال النصف الأول من القرن السابع الميلادي.

65 عاماً من النكبة والمذابح والحروب والاحتلال، لم تبتعد بفلسطين عن ناظر الفلسطينيين، فكيف تُنتزعُ من قلوبهم وعقولهم. فالفلسطيني أينما، وكيفما كان يمشي العمر كله نحو فلسطين، بقلبه أو بقدمه. سَحَر الهنيدي تسير بكليهما، وهي الآن على مرمى البصر من فلسطين في منزل شيّدته في ضواحي عمان على مرتفع تل بدر. شرفة المنزل تطل على القدس ومدن الضفة الغربية. وفي مكتبة منزلها التي تحتل باحة وشرفة تقيم فلسطين في كتب ووثائق، بينها وثيقة تاريخية فريدة؛ سجلات «لجنة اليتيم العربي» التي كانت تدير ميتم ومدرسة أطفال شهداء ثورة 1936. رئيس المشروع أحمد سامح الخالدي، ومديره عبد الغفار كاتبه، جَدُ سحر الهنيدي من أمها، وهو الذي أنقذ الوثائق والأسرة من مذبحة اللد التي قادها إسحاق رابين.

السعادة أو الموت قانون حياة الفلسطيني، ليس لأن الموت يترصد الفلسطيني أكثر من الآخرين، ومن لا يترصده الموت من العرب اليوم، بل لأن السعادة قُبلة الحياة خلال 65 عاماً من النكبة. «الضحك على ذقون القتلة» عنوان قصيدة محمد علي طه، وهو شاعر فلسطيني مجهول مهُجَّر من قرية صفورية المحتلة، اكتشفه النقد العالمي بعد وفاته عام 2011، وأصدرت دار «جالاد» الفرنسية مختارات مترجمة من شعره بعنوان «هجرة دون نهاية». وقصيدة «الضحك على ذقون القتلة» قُبلة الحياة لطه. «حبّي لكِ هو العظيمُ، أما أنا وأنتِ والآخرون، فأغلبُ الظنّ أننا أناسٌ عاديّونْ. سألتِني، وكنا من ضُحى النبع مرة عائديْنْ: ماذا تكره، ومن تُحِب؟، فأجبتُكِ من خَلفِ أهدابِ الفُجاءة، ودمي يُسرعُ ويُسرعْ، كظل سحابِة الزُرْزُور: أكرهُ الرحيلَ، أحبُّ النبعَ والدربَ، وأعبُدُ الضُحى! فَضَحِكْتِ، فأزهرَ لوزٌ، وشَدَتْ في الأيكِ أسرابُ العنادِلْ».