"مليونية" القدس!

بقلم: 

لم يجد «الإخوان المسلمون» خاصة، ومعظم القوى الإسلامية عامة للرد على انتهاكات الصهاينة في القدس والمسجد الأقصى سوى تنظيم "مليونية" في الجامع الأزهر عقب صلاة الجمعة الماضية. منذ قيام ثورة يناير في مصر وبخاصة في ساعاتها الأولى أصبح ما يسمى بـ"المليونيات" أداة للحركة السياسية، ولم يعد يهم لاحقاً عدد المشاركين فيها، فقد تراجعت أعدادهم إلى آلاف ثم مئات وعشرات، ولم تكن "مليونية الإخوان" أحسن حالاً نسبياً إذ لم يشارك منهم ومن أنصارهم سوى قرابة ألفين، وهو رقم بالغ الضآلة بالنسبة لتنظيم عُرف أساساً بالقدرة على الحشد، وبعد أن كان "الإخوان" يحاربون في فلسطين بالفعل أصبحوا الآن يكتفون بالشعارات، مع أنهم في 1948 كانوا فصيلاً لا يملك سلطة أو قراراً، بينما هم الآن أصحاب الحكم وأهل السلطة.

تنوعت الشعارات التي رددتها المظاهرة، لكنه ذلك التنوع الذي يؤكد التشابه مع مظاهرات أخرى ليس من الضروري أن تكون عن الصراع العربي- الإسرائيلي. رفعت المظاهرة الشعار الشهير: "عالقدس رايحين شهداء بالملايين"، وأضافت إليه شعارات أخرى، مثل: "النهاردة يوم الأرض يا صهيوني يا منحط"، و"يا أقصانا لا تهتم هنخليها دم بدم"، و"الصهيوني عدو الله والأميركي كمان وياه"، و"أمة إسلامية واحدة ضد السلطة اللي بتدبحنا"، وطالب المحتجون السلطات الرسمية في مصر باتخاذ موقف حازم ضد إسرائيل كسحب السفير المصري من تل أبيب وطرد السفير الإسرائيلي في القاهرة. ومن ناحية أخرى شارك في المظاهرة الدكتور محمد البلتاجي عضو المكتب التنفيذي لحزب "الحرية والعدالة" (الذراع السياسي لـ"الإخوان المسلمين")، وألقى كلمة جاء فيها: "إنهم يراهنون على أننا مشغولون بالثورة المصرية، لكننا نؤكد أننا أمة واحدة، فإخواننا في سوريا والقدس وبورما وبنجلاديش كالجسد الواحد"، وشدد على أن المعركة الحقيقية هي تحرير فلسطين والقدس من أيدي الصهاينة، وأضاف ما هو أخطر وهو السعي لاستكمال السيادة على سيناء بشكل كامل على غير النحو الذي أرادوه لنا في كامب ديفيد، ولذلك سنعمل على تحرير القدس والجولان والضفة الغربية، وطالب مرسي بتجهيز القوى اللازمة لمحاربة الكيان الصهيوني.

وإذا ناقشنا كل ما سبق بجدية -وهذا هو المطلوب أو لنصمت- لابد من الإشارة أولاً إلى ملاحظتين مهمتين، أولاهما أن ثمة انقساماً داخل الصف الإسلامي، فعلى الجانب الأول شارك في المظاهرة "الإخوان المسلمون" ومعهم معظم الأحزاب الإسلامية الصغيرة، لكن السلفيين -وفي مقدمتهم "حزب النور"- لم يشاركوا، وإذا كنا لا نستطيع أن نوحد الصف الإسلامي وراء قضية كهذه فماذا نحن فاعلون إزاء قضايا ذات أولوية ثانية؟ والملاحظة الثانية أنه إذا كان الموضوع الأساسي لهذه المظاهرة هو القدس والأقصى فإن ثمة مشاركين غنى كل منهم على ليلاه، سواءً كانت سوريا أو مسلمي ميانمار أو غير ذلك، وهذا على رغم أهميته يشتت الهدف ويبدد الجهد السياسي. ثم نأتي إلى الملايين التي ستذهب لتحرير القدس، والسؤال هنا إذا كان الحشد السياسي لم يقدر إلا على ألفي مشارك، فكيف يا ترى سنوفر الملايين للنضال و"الاستشهاد"؟ ثم إن هذه الملايين لن تهرول إلى القدس، لكنها تحتاج إعداداً وتجهيزاً، فأين تلك الاقتصادات العربية (القوية وليس الغنية) القادرة على مساندة هذه المهمة؟ أما بالنسبة لحديث الدكتور البلتاجي عن استكمال تحرير سيناء، فهو حديث بالغ الخطورة والأهمية، وحسناً فعل أنه وجهه لرئيس الجمهورية، فهو القادر على ترجمته إلى فعل، لكن التنبيه واجب إلى أن هذه المطالب المشروعة لابد أن تتضمن مواجهة على أخطر مستوى مع إسرائيل حتى ولو كانت في حدها الأدنى، كتعديل المعاهدة معها، وبذلك هي تحتاج وضعاً اقتصادياً قوياً وتأميناً كاملاً لشبه جزيرة سيناء، وكلاهما إما غائب أو غير مكتمل حتى الآن، ولذلك فإثارة هذه القضايا من باب "الشعار" مطلوبة بل ومرغوبة، ولكنها بالتأكيد تنطوي على محاذير في الفعل.

إن هذه المظاهرات يفترض أن تحمل رسائل للخصم بأن الصبر بدأ ينفد، غير أن ضآلة الأعداد المشاركة فيها، ولاشك ستشيع مناخاً من الارتياح والاطمئنان داخل صفوف العدو الذي لن تجد مثل هذه التظاهرات الهزيلة طريقها إلى تقارير مخابراته اللهم إلا إذا كان من باب إمساك الحجج على الجانب العربي وإظهار عدوانيته وعنصريته. ومع ذلك وجد أحد أعضاء اللجنة الإعلامية لحزب البناء والتنمية الجُرأة في نفسه كي يقول إن "المليونية" تبعث رسالتين أساسيتين أولاهما لإسرائيل لتبصيرها بطبيعة الوضع العربي الجديد، وأن الوضع في المنطقة لم يعد كما كان في السابق، والثانية للحكام العرب كي يتحركوا ويكونوا معبرين عن نبض شعوبهم لا عن إرادة الأميركان، ويثبتوا لشعوبهم أنهم ليسوا نسخاً مكررة لمبارك وبشار والقذافي وبن علي، ومع ذلك فالغريب أنه مع وجود تقصير واضح من قبل النظم -كما يكشف عنه جوهر المظاهرة- فإنه حينما حمَّل أحد المصلين داخل الأزهر الأنظمة والحكام العرب والجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي مسؤولية ما يحدث تم التشويش عليه من شباب "الإخوان"، وكان واضحاً على هذا النحو أننا إزاء مظاهرة "ثورية" و"رسمية" في آن واحد.

إن كل ما سبق يعكس طريقتنا المألوفة في مواجهة المخاطر -بما في ذلك الجسيمة- بالمظاهرات والشعارات، وإذا كنا نريد لهذه التحركات الجماهيرية أن تحدث أثراً ما فلتكن "مليونيات" حقيقية تصل رسالتها إلى إسرائيل. وعلينا أن ندرك أن الخطر على القدس والأقصى ليس مصدره الكيان الصهيوني فقط، بل إنه قد لا يكون المصدر الرئيسي للخطر، لأننا شركاء أصليون في هذا، فخطة الصهيونية في فلسطين معروفة لنا منذ أكثر من قرن، ومع ذلك قابلناها بالسكوت أو العجز، أو على أحسن تقدير ببعض ردود الأفعال الهزيلة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وليست هذه دعوة للإحباط وإنما للعمل الجاد والفعال، فمواجهة المخطط الصهيوني في فلسطين عامة، وفي القدس والأقصى خاصة، تحتاج مقاومة، وقد كانت لدى الفلسطينيين في وقت من الأوقات مشروعات للمقاومة أهمها ما حملته "فتح" و"حماس"، وأطلقت "فتح" أولى رصاصاتها تجاه العدو في 1/1/1965، وحققت مقاومتها للعدو إنجازات حقيقية إلى أن استُدرجت إلى نفق أوسلو، وتم التوصل إلى عدد من الاتفاقات مع العدو كان أهمها من منظور المقاومة أنها حولت القوة الضاربة لـ"فتح" إلى قوة شرطة مهمتها الحراسة وليس استكمال مهمتها التاريخية لتحرير الأرض. أما "حماس" فكان لها منذ النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي مشروعها المقاوم الذي حققت فيه بدورها إنجازات يعتد بها، ولكنها وضعت بيدها نهاية هذا المشروع بدخولها الانتخابات التشريعية في 2006 وفوزها بها وتشكيلها حكومة السلطة الفلسطينية، ثم طردت "حماس" قوات "فتح" من غزة بعد صدام دموي في 2007، وأصبح من واجباتها أن تدافع عن مؤسسات "دولة القطاع".

وعلينا لمواجهة الخطر الصهيوني على القدس والأقصى أن نستعيد روح المقاومة التي نزعتها "فتح" و"حماس" على التوالي، وهو مطلب لا يريح المعتدلين الذين يفضلون مناخ الاستقرار ولو على حساب مقدساتنا، علماً بأن المقاومة ليس من الضروري أن تكون مسلحة، فهناك المقاومة المدنية بشتى صورها وأشكالها، فإن لم نفعل سيأتي علينا يوم نقول فيه، إن آباءنا ضيعوا فلسطين، وإننا أضعنا القدس والأقصى.

المصدر: 
الاتحاد