الأسرى الفلسطينيون ومحاموهم بين الواجب والإستغلال

بقلم: 

 

في ثنائية العلاقات القائمة في هذه الحياة، برزت علاقات ثنائيات إجبارية بحيث أصبح أحد قطبيها لا يستغني عن الآخر، ومن ضمنها كانت علاقة الأسير الفلسطيني بمحاميه. لكن النقاش الذي غالباً ما يطفو على السطح هو عن مدى التزام المحامين الفلسطينيين بالقيم الوطنية والمعايير المهنية في التعامل مع أسرى الحريّة.

ولمّا كانت ثقافة "العيب الوطني" متواجدة بقوة في مجتمعنا الفلسطيني لاعتبارات عدة، ووجود الكثير من المسببات التي منعت الخوض في كثير من الأمور، ظلت علاقة الأسير الفلسطيني بمحاميه مشُوبة بنوع من الغموض، وظلت المشكلة في تفاقم مستمر ولم يجرؤ أحد على الحديث في هذا الموضوع أو أن يخترق جدار الصمت فيه حتى كتب في هذا الموضوع الأسير عبد الفتاح دولة من سجنه في بئر السبع مقالاً بعنوان "محامو الأسرى...شركاء في الجريمة"، وتبعه الصحفي المُحرر أمين أبو وردة حيث كتب من مكان سجنه في مجدو مقالاً بعنوان "محامون خناجر مسمومة في صدور الأسرى" ، لقيت هذه المقالات ردود فعل واسعة بين مؤيد ومعارض ومنتقد، فكان لا بدّ من الوقوف على بعض التفاصيل والنقاط المطلوب معالجتها في هذا الموضوع بالذات، وسيكون كلامي في عدة محاور، مع ثقتي أن كلامي لن يرضي الكثيرين، لكنها الحقيقة، ولا بدّ من الإفصاح عنها.

الأسير غائباً، على من تقع مسؤوليته القانونية، وماذا يريد الأسير من محاميه:

الأسير غائباً، هو عنوان مثير للشفقة والتعاطف عند الكثيرين، لكنه يفتقر إلى الدعم والمساندة الحقيقية التي تلامس واقع وتفاصيل حياته الإعتقالية بما يشمل الناحية القانونية أمام المحاكم العسكرية الإسرائيلية.

وهذا المحور يدفعنا للحديث عن نقطة هامّة أخرى وهي هل يقع واجب الأسير؟ على وزارة الأسرى ونادي الأسير، أم على فصيله أم أنّ على أهله التكفُل بموضوعه!!؟ فمن المعروف أن المحامين ينقسمون في التعامل مع الأسرى إلى عدة أقسام، أو طبقات - إن صح التعبير- ، فهناك محامون لوزارة الأسرى ونادي الأسير وهؤلاء الذين من المفروض أن يكونوا المظلة الأوسع لشريحة كبيرة من الأسرى وأن يكونوا على قدر عالٍ من المسؤولية والكفاءة في العمل والإتقان، وهناك محامون من الجمعيات المحسوبة على الفصائل ويقتصر عمل هؤلاء كلٌّ للدفاع عن أبناء الفصيل الذي تعمل باسمه هذه الجمعية، وهناك محامون يعملون لصالح المؤسسات الحقوقية والقانونية المعنية بحقوق الإنسان.

فجُلُّ ما يريده الأسير من محاميه هو أن يمكنه من التواصل مع ذويه، وأن يخبره بمواعيد المحاكم وأن يساعده في رفع شكاوى ضد إدارات السجون ومتابعة أموره المالية مع الوزارة، لكن وفي غالب الأحيان، يشتكي معظم الأسرى من إهمال المحامين لهم وعدم إيدائهم للدور المطلوب منهم في متابعة قضاياهم في المحاكم، وعدم إطلاعهم على حقيقة ما يجري في كواليس جلساتهم مع النيابة الإسرائيلية، فإذا ما حرك الأسير شفتيه متحدثاً عن مبلغ إضافي من المال، انقلبت الأمور رأساً على عقب، وصار هذا الأسير هو صاحب الأولوية الكبرى لدى هذا المحامي، وهذا بشكل عام لدى محامي المؤسسات الرسمية كوزارة الأسرى ونادي الأسير ومؤخراً انتشرت هذه الظاهرة لدى محامي الجمعيات القانونية التابعة للفصائل الفلسطينية، لتسمع الجملة ذاتها " المحامي الموكل بقضيتي هو فُلان من الجهة الفلانية لكنها خاصّ – أي على نفقتي الخاصة –"

مكاتب المحاماة الخاصّة في الضفة تحت أسماء مؤسسات إنسانية، وبأسعار خيالية:

محورٌ آخر أعتبره هاماً وحساساً هو وجود عدد من مكاتب المحاماة في الضفة الغربية التي تعمل تحت اسم كبير لمؤسسات دولية وتدعي أنها مؤسسات تضامنية حقوقية وإنسانية، إلا أنه في حين التوجه من قبل ذوي الأسير إلى هذه المؤسسة بصفتها مؤسسة دولية إنسانية وبهدف متابعة قضية ابنهم، وبعد مدة يتفاجأ الأهل بأن المؤسسة تطلب مبلغا ماليا باهظا لقاء متابعة قضية ابنهم، وإلا سيتم ترك ملفه في المحكمة بلا محام! ناهيك عن المبالغ الباهظة التي تُطلب لقاء ذلك، فالزيارة الواحدة للأسيروالتي لا تتجاوز الدقائق العشر والتي يحمل فيها المحامي ورقة من ذوي الأسير ويقرؤها على مسمع الأسير كرسالة تكلف الأهل مبلغا يقارب ال 150 دولارا ! علماً أن الأسير قد يكون في انتظار مثل هذه الزيارة على أحرّ من الجمر، خصوصاً إذا تعلقت الزيارة بمتابعة تطورات قضيته في المحاكم الإسرائيلية. وإذا كانت جلسات محاكمة الأسير في محكمة سالم العسكرية، فقد يصل المبلغ المطلوب للملف الواحد قرابة الـ 1000 دولار، يزيد أو ينقص حسب المحامي وعدد الجلسات! أما حضور المحامي لجلسة محكمة الإداري في محكمة سجن عوفر والتي لا يتكلف فيها المحامي سوى دفع وقود سيارته للوصول إلى سجن عوفر، فإن الأهل عليهم دفع أكثر من 400 دولار بدل هذه الجلسة، أما الشكوى المقدمة لمحكمة العدل العليا الإسرائيلية في موضوع الإدراي بهدف نقض الحكم أو إلغائه، فيتطلب عقدها أن يقوم الأهل بدفع مبلغ أكثر من 500 دولار. علماً بان تكاليفها لا تتجاوز ال 50 دولارا بما يشمل رسوم تقديم الطلب للمحكمة العليا! فإذا كان هذا هو العمل الحقيقي لهذه المؤسسات فلتُشهر أسماءها الحقيقية كمكاتب خاصةّ دون العمل تحت أسماء مؤسسات إنسانية.

علاقة مريبة مع النيابة الإسرائيلية يدفع ثمنها الأسير وحده:

لاحظت كغيري من الأسرى وجود علاقة غامضة ومريبة في بعض الأحيان بين المحامي والنيابة العسكرية الإسرائيلية، تصل أحياناً لحد الانتقام من الأسير إذا قام بتغيير هذا المحامي إلى محام آخر، فعندما حكمت بالسجن لسبعة شهور في الإعتقال الأول اقترب مني أحد المحامين قائلاً: "احكي للأسير فلان بتدفع 15 ألف شيكل لشلومو وما بدك تدفع 10 آلاف شيكل لمحمد، أنت الخسران"، وهو بذلك يشير إلى أسير كان معنا في أحد الأقسام في سجن مجدو، ورفض إهمال محاميه الفلسطيني له ومحاولة استغلاله بطلب مبلغ باهظ، فقام بتحويل ملفه إلى محام إسرائيلي معروف ليقوم بالدفاع عنه، فما كان من محاميه الأول إلا تحريض النيابة على الأسير، مما حدا بالنيابة والقاضي إلى الإصرار على حكمه لمدة أطول، وكان ما كان، امّا الإعتقال الإداري، فلطالما كان الإعتقاد أن المخابرات الإسرائيلية هي فقط التي تقف وراء التمديدات وأن المحامي لا يقدم ولا يؤخر، لكنّ هناك فروق واضحة بين الجهود المبذولة من قبل المحامين، وهناك فرق بين من يسلك كل السبل لإطلاق سراح موكله وبين من يدّعي رفع قضية للمحكمة العليا لنقض الحكم الإداري (غيابياً)، وعندما يطلب الأسير من المحامي بروتوكول الجلسة ويصر عليها يتبين أنّ المحامي لم يتوجه أصلاً للمحكمة العليا بحجة ضعف الملف ومبررات أخرى واهية، وبذلك يكون قد تعاون مع النيابة في تمديد المعتقل الإداري بكل سهولة.

ظواهر جديدة قاتلة يعاني منها الأسرى:

ظاهرة جديدة بدأت تعصف بالأسرى الفلسطينيين وهي ما أصبحوا يطلقون عليه (مكاتب المحاماة العائلية)، فتجد المحامي الزوج يعمل في القضايا العسكرية، وبعد فترة يحضر زوجته للترافع أو إتمام زيارات الأسرى على السجن، رغم توقع الأسير لقدوم المحامي ليطلعه على تطورات قضيته، قتعتذر بالقول له زوجي في محكمة بالناصرة أو بالعليا أو ... وكثيرة هي الحجج والأعذار المختلقة، فإذا ما جاء موعد محاكمة الأسير ووصل للمحكمة، فقد يجد ابن المحامي المتدرب ليرافع عنه أمام القاضي!! وفي هذا إثبات لعدم تفرغ المحامي للقضايا الموكلة إليه، وأنها أولوية ثانية إن لم تكن أخيرة بالنسبة له، فهو سيحصل على مبلغ عن كل ملف يترافع عنه شهرياً دون وجود حسيب أو رقيب عن ماذا أنجز أو حقق في هذا الملف! فمعظمهم يرون الملف لحظة دخولهم للمحكمة، إلا إذا كان المبلغ المدفوع مسبقاً مغرياً. ولا يقدر هؤلاء المحامين حجم المعاناة التي يتكبدها الأسير عند الذهاب للمحكمة، من تقييد بالأيدي والأرجل بالقيود الحديدية لمدة تزيد عن 12 ساعة متواصلة، وتحمل حر الصيف الخانق وبرد الشتاء القارس، عدا عن إذلال قوة النحشون للأسير والتفتيش القاسي لهم، كل ذلك ليصل الأسير لقاعة المحكمة ولا يجد المحامي ذاته أو ليجد بديلاً عنه لا يتقن سوى تأجيل المحكمة. أما إن كانت المحكمة في سجن عوفر، فحدث ولا حرج عن رحلة العذاب التي لا يمكن وصفها وتستمر لمدة 3 أيام متواصلة مكبلاً بالقيود والأصفاد.

انتقائية وزارة الأسرى ونادي الأسير وجمعيات التنظيمات في زياراتهم للسجون ومتابعاتهم لقضايا الأسرى:

كما أنه من غير المقبول أن تبقى زيارات محامي وزارة الأسرى ونادي الأسير تقتصر على ممثلي الأقسام والسجون من المحسوبين تنظيمياً على حركة فتح، وبقية الأسرى لا بواكي لهم! أما جمعيات التنظيمات الأخرى فحدث ولا حرج، فزيارات المحامين التي تسمح للأسير بالتواصل مع أهله هي فقط لمسؤولي الأقسام وأمراء وسكرتاريا الفصائل داخل السجون والقيادات المعروفة ذات الأسماء اللامعة في كل فصيل من الفصائل، ليصبح موضوع تواصل الأسير مع ذويه داخل السجن من الكماليات، بل ومحصوراً في طبقة برجوازية صغيرة داخل الأسرى أنفسهم ولا تشمل بأية حال من الأحوال الأفراد العاديين إلا إذا كانت مدفوعة الثمن مسبقاً !

الحلّ والبدائل:

وهنا يجب على كل متابع لهذا الشأن أن يطرح عدة تساؤلات أهمها: ألا يستحق الأسير الذي ضحى بعمره من أجل وطنه وشعبه أن يكون ملفه موكلاً إلى محامٍ متمكن وقادرٍ على استغلال الثغرات القانونية في قضيته والتوصل إلى أقل الأحكام، بعيداً عن الإهمال واللامبالاة ؟ أليس كذلك من الواجب على المؤسسات القانونية كافة بما فيها وزارة الأسرى ونادي الأسير أن تراجع عمل محامييها في المحاكم الإسرائيلية، وألا تكتفي بتقارير المحامي نفسه بل من الأسرى أنفسهم ؟

وفي ظل هذا الإهمال والقتل البطيء للأسير وأمله في استغلال الثغرات القانونية في قضيته للدفاع عنه من قبل محامٍ متمكن من عمله، يضطر بعض الأسرى خصوصاً من ذوي القضايا العالقة في المحاكم الإسرائيلية إلى الاختيار بين أمرين كلاهما مرّ، فيلجأون إلى توكيل محامٍ اسرائيلي خاص بمبلغ باهظ، وإن كان ذلك قد يُعتبر لدى البعض تصرفا غير وطني، إلا أنّ تكرار الإهمال واللامبالاة من قبل المحامين الفلسطينيين يدفع الكثيرين الآن إلى هذا الخيار، وقد يلجأ البعض لتوكيل محام خاص من داخل الخط الأخضر أو من الضفة الغربية، مما يرهقه مادياً خصوصاً أن نسبة كبيرة من الأسرى هم من المتزوجين أو من الذين تعتمد عليهم أسرهم في إعالتهم.

فمتى ستدرك وزارتا الأسرى في وطننا المكلوم والفصائل كلها حقيقةً مفادها أنّ الأسرى هم أحرارٌ مع وقف التنفيذ يجب خدمتهم بشتى الطرق والوسائل وليسوا شعاراً فقط، وأنّ المعركة القانونية الناجحة قادرة على إنقاذ الأسرى من الأحكام الكبيرة القاتلة، وتخفيف عشرات السنوات عن كثير من إخوتنا المعتقلين والتي تؤدي إلى إعدامهم بشكل بطيء، وحتى متى سيبقى عمل هذه الجهات كلها للأسرى محدوداً بالحزبية الضيقة والمصالح والشهرة فقط!

 

* أسير محرر، ناشط شبابي وطالب جامعي بكلية الهندسة بجامعة النجاح في نابلس

المصدر: 
زمن برس