يهود أوروبا الوسطى والشرقية: أصولهم ومن أين جاؤوا ...

بقلم: 

 

كتب المؤرخ المقدسي في القرن العاشر الميلادي: «في خازاريا توجد الأغنام والعسل واليهود بكميات كبيرة». في هذا النص إشارتان مهمتان: الأولى إلى خازاريا. فما هو هذا البلد؟ وأين يقع؟ وما دوره في التاريخ؟ وما هي أصول الشعب الخزري؟ وماذا حل به؟ وكيف تفككت دولته؟ الثانية تتعلق باليهود (الذين وجدوا بكميات كبيرة في ذلك البلد)، فمن هم؟ وما هي أصولهم؟ وإلى أي الشعوب ينتمون؟ وهل استمروا في العيش في المساحة التي أطلق عليها «خازاريا»، أم أنهم توزعوا في مناطق عديدة؟ وهل لهم علاقة سلالية بالفرع اليهودي السامي؟

قبل الإجابة عن الأسئلة السابقة وغيرها، تجدر بنا الإشارة إلى آخر الأبحاث والنتائج التي توصل إليها الباحث الدكتور عران الحياك، بعد أبحاث أجراها في كلية الصحة العامة في جامعة «جون هوبكنز» الأميركية في بالتيمور، على عينات معينة من اليهود الأوروبيين، تتعلق بمورثاتهم أو «جيناتهم» السامية، ليجد أن المكون الخزري هو العنصر الظاهر في الحمض النووي ليهود أوروبا. وقد تم نشر هذه النتائج في مجلة «جينوم، بيولوجيا ونشوء» التي تصدر عن جامعة أوكسفورد، ونقلت عنها ذلك صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية وترجمت صحيفة «السفير» اللبنانية في 24/12/ 2012، خلاصة للنتائج.

ومما جاء في الدراسة: «إن اليهود الأوروبيين هم من نسل الخزر، وهي امبراطورية تشكلت من شعوب مختلفة (تركية وإيرانية وسلافية وقوقازية وغيرها) وحكمت في القرون الوسطى منطقة شاسعة بين البحرين الأسود والخزري –قزوين-. ووفقاً للنظرية، فإن الخزر تهوَّدوا في القرن الثامن، ونسلهم هم اليهود الأوروبيون، الذين يعيشون في الخارج وفي فلسطين اليوم».

معنى هذا أن نتائج البحث توصلت إلى أن أغلب يهود أوروبا، ومن غزا من بينهم فلسطين، يعودون في أصولهم إلى الجنس الخزري الآري، وليس إلى جنس سامي كما تدّعي الأوساط الصهيونية، أي أن غالبيتهم لا علاقة لها بالمكون السامي أو بمملكة يهودا، وأنهم ليسوا من نسل يهود الشتات بعد أن تقوضت مملكتهم، وهو ما أشارت إليه عشرات البحوث والمؤلفات من قبل، أبرزها ما توصل إليه الباحث المجري الإنكليزي آرثر كوستلر في كتابه «إمبراطورية الخزر وميراثها»، الصادر في لندن في العام 1976 وتمت ترجمته إلى العربية في العام 1978، وأعيدت طباعته في طبعة ثانية في العام 1985 في دمشق.

من أين وإلى أين؟

وفي ما يتعلق بالخزر وإمبراطوريتهم، أو مملكتهم، فتعود أصولهم كشعب إلى وسط آسيا، وهي أصول تركية –جذر لغتهم الأساسي تركي–، وهم استوطنوا في المنطقة الممتدة بين البحرين الأسود والخزري –قزوين– اعتباراً من القرن الخامس الميلادي، وبين نهري الفولغا والدون، واختلطوا بالشعوب التي تسكن المنطقة، وكانوا من الوثنيين أو من أتباع ما كان يسمى بـ «الشامانية»، ثم أخذ بعضهم يتأثر بالإسلام أو المسيحية، كون ذلك يجعل الدولة تتبع الدولة البيزنطية المسيحية في القسطنطينية، أو الدولة العباسية الإسلامية في بغداد.

لذلك، فإن تلك القوى بحثت عن حالة يمكن أن تجنِّبها «خضوعاً» لهذه الجهة أو تلك. وبما إن الديانة اليهودية لم يكن لها دولة تتبناها، أو يمكن أن تفرض سطوتها على من يتبعها، أعلن حكام الخزر تبنيهم اليهوديةَ رسميا، وأخذت هذه الديانة تنتشر في تلك المنطقة تدريجاً، علماً أن ديانتي الإسلام والمسيحية استمرتا قائمتين فيها، إلى درجة أن فرقاً من جيوش الخزر كانت تدين بالديانتين بكل وضوح، كما أن المساجد والمآذن كانت واضحة المعالم في بعض أحياء العاصمة الخزرية إتل أو خازاران أو ساكسين، وهي من أسماء العاصمة الخزرية الواقعة على مصب نهر الفولغا في بحر قزوين –الخزر– في أقصى الجهة الشمالية الغربية منه.

الجدير ذكره هنا، أن موقع مملكة الخزر بين بحري قزوين والأسود، وهو من جنوب الاتحاد الروسي حالياً، يعتبر من المواقع الاستراتيجية التي كانت تفصل بين مكونين قويين في ذلك الزمن: الإمبراطورية البيزنطية والخلافة العباسية، بعد أن تم تقويض الإمبراطورية الفارسية. وكان يمكن الخلافة العباسية الاستيلاء على الإمبراطورية البيزنطية لولا حاجز المملكة الخزرية وقواها العسكرية التي أحبطت هجمات العرب المسلمين واندفاعاتهم العاصفة نحو الكيانات التي كانت قائمة في أوروبا. ولم يكن غريباً أن يتم التقارب بين الخزر والبيزنطيين، وأن تقوم مصاهرات بين البيتين الملكيَّيْن، فتزوج الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الخامس من إحدى الأميرات الخزريات، وأن يحكم ابنهما بيزنطة بعد ذلك تحت اسم ليو الخزري ما بين 775 إلى 780م.

ومع ذلك، فإن التحالفات السياسية والحربية قلما تدوم وتستمر أبداً، لأن المصالح تتعارض، وتتناقض في أحيان كثيرة، لذلك لم يكن غريباً أن تتحالف بيزنطة مع الدولة الروسية الناشئة في مدينة كييف في العام 945 على حساب دولة الخزر، وأن تقع مدينة ساركل، المدينة المهمة على الطريق بين البحرين الأسود وقزوين –الخزر–، والتي تعتبر المدينة الثانية في مملكة الخزر بعد العاصمة إتل، بين أيدي الروس في العام 965م.

رحلة ابن فضلان لكن، وقبل أن نمضي في ذكر الوقائع والعوامل التي ساهمت في إضعاف دولة الخزر -ومن ثم سقوطها وتوزع سكانها وهجرتهم إلى شرق أوروبا ووسطها- على أيدي المغول اعتباراً من القرن الثالث عشر، يجدر بنا ذكر واقعة مشهورة في تاريخ المنطقة وتاريخ الخزر والبلغار، تتمثل برحلة ابن فضلان من بغداد عاصمة الخلافة العباسية الإسلامية، للوصول إلى بلاد البلغار التي كانت تقع على المرتفعات العليا التي يمر بها نهر الفولغا، الذي يلتقي برافده المهم نهر كاما بالقرب من العاصمة (بلغار)، وذلك في القرن العاشر الميلادي. أما البلغار، فهم من وسط آسيا أيضاً، ولكن من قبيلة تختلف عن الخزر، استوطنت شمال مملكة الخزر قريباً من مجرى نهر الفولغا، وأسلمت غالبية فيها، إلا أن تجارتها مع دول الشرق الإسلامية كانت تتعرض للتعطيل من قبل الخزر أحياناً، أو تُفرض عليها المكوس العالية في أحيان أخرى، كما أن سطوة مملكة الخزر وسلطاتها كانت تفرض ضرائب عالية على سكان منطقة البلغار، ما جعل مصالحهم تتعرض إلى كثير من المضايقات والتعطيل من قبل الخزر، هذا عدا عن إلزام البلغار بتقديم رهائن إلى البلاط الخزري، خصوصاً من بين النساء، فضلاً عن قيام مناوشات تتعلق بالدين –اليهودية لدى الخزر والإسلام لاحقاً لدى البلغار–. جدير بالذكر أن جمهورية تتاريا (ذات الحكم الذاتي التابعة للاتحاد الروسي حالياً) هي بلغاريا ذلك الزمان.

ونتيجة لهذه الأسباب وغيرها، فإن قيادة بلغار الفولغا ارتأت الاستعانة بالخلافة العباسية في بغداد، علها تنجدها في مواجهة الخزر وتبني لها مواقع دفاعية وقواعد وحصوناً على حدودها وتنشر الدين الإسلامي في ربوعها. وفعلاً، استجابت الخلافة في بغداد للطلب البلغاري، وأرسلت بعثة استكشافية على رأسها ابن فضلان –وهو أحمد بن فضلان بن عباس بن رشيد بن حماد–، وكانت من أكبر البعثات، إذ ذكر بعض المصادر أن عدد رجالها بخيولهم ودوابهم الأخرى وصل إلى نحو خمسة آلاف فارس، وأن عدد دواب الحمل فيها وصل إلى نحو ثلاثة آلاف، مع ما حملته من هدايا وملابس وخيم وأغذية وغيرها، وانطلقت من بغداد في 21 حزيران (يونيو) من العام 921، واستمرت لنحو سنة، حيث عادت في 12 أيار (مايو) من العام 922، بعد أن قطعت نحو 2500 كيلومتر، ومرت ببلاد ومقاطعات وممالك عديدة، وواجهت أخطاراً وأهوالاً وعقبات، بعد أن تفادت المرور ببلاد الخزر.

ولأن ابن فضلان كان من المؤرخين وكتبة التقارير النابهين، فقد سجل تفصيلات دقيقة من وقائع الرحلة ومناخات الأقاليم التي مرت بها وعادات شعوبها وتقاليدهم ولغاتهم وأديانهم وتصرفاتهم ومآكلهم ومشاربهم... وتفصيلات أخرى مختلفة. وقد تم نشر تقرير ابن فضلان في كتاب صدر في دمشق، بعد أن حققه وقدم له الدكتور سامي الدهان تحت عنوان «رسالة ابن فضلان».

السقوط

ضربات القوة الروسية الصاعدة وانتشار قواتها في جنوب دولة الخزر وشرقها أضعف تلك الدولة، وشتت سكان بلغار الفولغا، فوصلت قبائل من الخزر إلى هنغاريا، كما وصلت قبائل من البلغار إلى منطقة نهر الدانوب، التي عرفت ببلغاريا الحالية، أي أن دولة الخزر استمرت في البقاء وإن كان بصورة أضعف، وأخلت مناطق عديدة للقوة الروسية الناشئة، التي طردتها من كييف في العام 882.

استمر التراجع الخزري وسقوط مناطق وأقاليم عدة بين الروس والبيزنطيين، إلى أن أخذ المغول –قبائل من وسط آسيا أيضاً وجذرهم اللغوي يعود إلى التركية في الغالب– بالتسرب إلى المنطقة، وأخذوا بتقويض بعض قواها ودولها، كما حدث لدولة الخزر في القرن الثالث عشر. وذكر آرثر كوستلر في كتابه المشار إليه من قبل، أن المغول «أقاموا أكبر إمبراطورية بدوية عرفها العالم حتى ذلك الحين- منتصف القرن الثالث عشر– وكانت تمتد من هنغاريا حتى الصين» (ص 164).

فما الذي حل بسكان مملكة الخزر، خصوصاً من كان يعتنق الديانة اليهودية من بينهم؟

«لكن الخزر قاموا –قبل الغزو المغولي وبعده– بإرسال فروع منهم إلى البلاد السلافية التي لم تقهر، خصوصاً روسيا وبولندا، وعاونوا بذلك إلى أقصى حد على تشييد المراكز اليهودية الضخمة في أوروبا الشرقية» ( ص 176 من كتاب كوستلر). ويضيف في الصفحة 183: «بدأت مناطق أوروبا الوسطى والشرقية، التي كفلت لمهاجري خازاريا اليهود وطناً جديداً وأمْناً، تكتسب أهمية سياسية حوالى نهاية الألف الأولى من الميلاد فقط».

ولكنن إذا كان الأمر كذلك، من حيث توجه أعداد كثيفة من اليهود الخزر إلى أوروبا الوسطى والشرقية واستقرارهم فيها في ذلك الزمان، فهل تلك الهجرات لم تترك أحداً من اليهود في المنطقة؟

ذكر كوستلر أن «ثمة بقايا (أثرية) ضئيلة للشعب الخزري في شمال شرقي القوقاز، تتمثل في (يهود الجبل)، الذين يبدو أنهم تخلفوا في مقرهم الأصلي حين رحل الآخرون، ولعل عددهم يبلغ حوالى ثمانية آلاف نسمة، وهم يعيشون إلى جانب من بقي من القبائل الأخرى من الأزمنة الغابرة ، مثل الكيشاك والغز، ويسمون أنفسهم يهود الأراضي العالية»(ص 182).

ومن المعلومات التي سجلْتُها في العام 1986، أثناء زيارتي جمهورية داغستان ذات الحكم الذاتي، الواقعة على شواطئ بحر قزوين –الخزر– ومن بين مدنها مدينة دربنت –باب الأبواب–، كونها بوابة أوروبا على آسيا أو العكس، ذِكْرُ مسؤوليها أن بين عدد سكانها المئة ألف نحو 14 ألف من اليهود، وأن لهم مسرحهم الخاص بهم، كذلك لهم صحيفتهم.

ومن النتائج التي توصل إليها الدكتور عران الحياك في بحثه المتعلق بجينات اليهود السابق ذكره، تسجيله ما يلي: «بحسب البحث الجديد، فإن المكون المهيمن في أوساط يهود أوروبا هو المكون الخزري، وهو يشكل في يهود وسط أوروبا 38 في المئة، وهو الأعلى من أي مكون آخر في «جينومهم». أما في أوساط يهود شرق أوروبا، فيشكل 30 في المئة، وليس في «جينومات» هؤلاء أي مكون أعلى منه».

ويخلص البحث إلى أن «المجموعات اليهودية في العالم لا تشترك في أصل جيني مشترك، والحديث يدور عن مجموعات مختلفة جداً لا رابط بينها سوى الدين».

ووفق رأي الباحث، فإن «الجينوم ليهود أوروبا هو فسيفساء شعوب عتيقة، لكنه في أغلبه خزري».

وكانت مجموعة من الباحثين توصلت إلى أن «أغلب من اعتنقوا اليهودية في العصور الوسطى كانوا من الخزر، وقد هاجر جزء كبير من هذه الغالبية إلى بولندا وليتوانيا وهنغاريا والبلقان، حيث المجتمع اليهودي الشرقي، الذي أصبح بدوره هو الغالبية الساحقة ليهود العالم» كما جاء في كتاب كوستلر (ص 188 – 189).

وكخلاصة، ووفق ما جاء في كتاب كوستلر: «سنبدأ بالاقتباس من سلسلة الكتيبات الممتازة التي أصدرتها اليونسكو بعنوان (مسألة الأجناس في العلم الحديث)، حيث يستنتج المؤلف الأستاذ جوان كوماس من الدراسة الإحيائية ما يلي: «وهكذا، فخلافاً لوجهة النظر التي تقال عادة، فإن اليهود ليسوا متجانسين من الناحية السلالية، ذلك أن هجراتهم الدائمة وعلاقاتهم الاختيارية أو غيرها بأوسع مجموعة من الأمم والشعوب، أحدثت فيهم درجة من التهجين، جعلت من يسمَّوْن بـ «بني إسرائيل» قادرين على إعطاء نماذج من السمات مماثلة تماماً لكل شعب، وأن اليهود إجمالاً يظهرون درجة عالية من التفاوت في ما بينهم، مماثلة لما يمكن أن يوجد بين أفراد جنسين مختلفين أو أكثر» (ص 229 – 230).

المصدر: 
الحياة