المنتدى الاجتماعي العالمي في تونس

بقلم: 

اختتم المنتدى الاجتماعي العالمي أعماله يوم السبت الماضي. اجتازت تونس هذا الحدث الذي يقام سنوياً، من دون حدوث مشاكل تذكر، رغم دقّة المرحلة التي تمر بها البلاد. تمكّنت السلطة الممثلة بحزب النهضة من تقديم نفسها على أنها حكومة ديموقراطية، تسمح بانعقاد منتدى يجمع معظم قوى اليسار العالمي والجمعيات المدنية، رغم ما تمثله من معارضة واضحة، للتيارات الإسلامية، إضافة إلى الرأسمالية العالمية. الصورة التي قدّمتها السلطة لا تعكس حقيقةً الوضع الذي تمرّ به البلاد، إذ أن انطباعات المشاركين الأجانب المبتهجين بتعاطي النهضة مع الحدث، تتعارض مع أراء المشاركين التونسيين المنتمين إلى الأحزاب اليسارية والجمعيات المدنية. أحد الصحافيين التونسيين يذهب بعيداً بالتأكيد أن وجه الحكومة سيظهر على حقيقته بعد انتهاء المنتدى. توقعات ثبتت صحّتها، جزئيا على الأقل، مع اعتقال أمين عام حزب الأحرار المعارض منير بعتور، بعد يوم واحد. إضافة إلى ذلك، لم تتوان السلطات الأمنية عن اعتقال أفراد من "الفرقة 15" الموسيقية، بتهمة تأليف أغانٍ مسيئة إلى القوى الأمنية، قبل أيام قليلة من المنتدى العالمي.
المنتدى الذي اختتم أعماله بمسيرة حاشدة تضامنا مع فلسطين أخذ طابعاً سياسياً بامتياز، رغم إقامة عدد كبير من الندوات التي تناولت التحولات الاجتماعية في العالم والوطن العربي. أتاح المنتدى مساحة واسعة للأحزاب اليسارية في تونس للتعبير عن نفسها، كما وفّر فرصة لتلاقي هذه الأحزاب وتقريب وجهات النظر فيما بينها، على الأقل على مستوى قواعدها الشعبية.
أجمل ما في المنتدى حالة الضياع التي تصيب المشارك لحظة الدخول إلى مكان انعقاده. حوالي 1500 ندوة على مدى ثلاثة أيام، مقسمة على ثلاث مراحل زمنية في كل يوم. أي ما يعادل انعقاد أكثر من 150 ندوة في وقت واحد، على المشارك اختيار واحدة منها فقط. والجميل في الأمر، هو الشعور الذي ينتاب المشارك بوجود هذا الكم من القضايا التي يمكن التعرف عليها، بدءاً بالقضية الفلسطينية وصولاً إلى قضية السكان الأصليين في أميركا اللاتينية التي جاء ممثلون عنهم إلى بلد عربي يقع في الطرف الآخر من الكرة الأرضية.
يصبح انتهاج العمل "المخابراتي" واجباً على المشارك، إذا ما أراد تحصيل أكبر كم من المعلومات والأفكار التي يتم تداولها في ورشات العمل والندوات. لحظة الوصول، تبحث عن أصدقاء وتلتقي بناشطين ومشاركين، سيتحوّلون طيلة أيام المنتدى إلى "مخبرين". صفة لن تكون بعيداً عنها، فأنت ستلعب الدور نفسه: يختار كل واحد ندوة لحضورها، ثم يلتقي الجميع في الختام، في مكان يختارونه، لنقل المعلومات وتبادلها.
توزيع الأدوار لا ينجح دائماً بالدقة المتوقعة، فالبعض تستوقفه النشاطات التي تقام فجأة في ساحات الجامعة. خلال التوجه إلى إحدى الندوات، يتجمع عدد من الأشخاص، ليخرج واحداً منهم، واضعاً طاولة في نصف الحلقة، يصعد عليها لإلقاء خطاب على الجماهير. العدد القليل سرعان ما يتحول إلى جمع كبير، تتفاوت نسبته، وفقاً لبراعة الخطيب والخطاب الذي يلقيه، في مشهد شبيه بزاوية المتحدثين الشهيرة في حديقة "هايد بارك" البريطانية.
"هايد بارك" المنتدى متنقل، خلافاً لثبات الزاوية في الحديقة اللندنية. أي مشارك، أو مجموعة، أو حزب يشعر برغبة في إلقاء خطاب ما، كل ما عليه فعله هو ابتكار منبر مرتجل، لتنطلق الخطابات بعد ذلك: الإمبريالية والصهيونية والرأسمالية العالمية، وخطر الإسلام السياسي على الثورات العربية، خطابات رنانة وحماسية، يهتف بها شبان وشابات من كل العالم. كل شيء متاح في المنتدى، وكأنه نظّم لإيصال الأصوات التي لم تعد "تستلطفها" الشاشات والمنابر الجاهزة.
النقاشات السياسية تلعب دورها أيضاً في تشتيت الانتباه. بعثيون وقوميون ويساريون وموالون للنظام الإيراني ومعارضون وناشطون يخوضون مواجهات حادة تنذر بالاشتباك لكن "السلمية" تظل هي الحكم في ما يفترض أنه نقاش: تخوين وتبادل اتهامات تصل حد الشتائم، من دون أن تصل إلى حد الاشتباك بالأيدي.
وحده الموضوع السوري تمكّن من كسر قاعدة سلمية المواجهة. والخيمة التي استضافت الحملة العالمية للتضامن مع الثورة السورية، استقطبت العديد من الأنظار. مجموعة من الناشطين السوريين المقيمين في تونس إضافة إلى عدد آخر جاؤوا من بلدان مختلفة أرادوا الاستفادة من الحدث، لإيصال صوتهم والتعبير عن قضيتهم. لا صفة رسمية أو حزبية تجمعهم، لكن العلم الأخضر والأبيض والأسود يكشف بوضوح عن توجههم، وهو ما رفضه بعض المنتمين إلى قوى يسارية مختلفة في تونس. الوضع السوري المعقد ينظر تونسيون إليه ببساطة: هذه ثورة تدعمها قطر التي تدعم بدورها حزب النهضة في تونس.

فلسطين وسلاح المقاطعة

لفلسطين حصة كبيرة من أعمال المنتدى، سواء بالندوات التي أقيمت على مدى ثلاثة أيام، أو من خلال المسيرة النهائية التضامنية التي انطلقت من شارع "الحبيب بورقيبة" وصولاً إلى الملعب الأولمبي في العاصمة. إلا أن إحدى المفارقات الواضحة في هذه الندوات هي اختلاف مضامينها بين الجمعيات الفلسطينية والعربية من جهة، والمنظمات العالمية المناهضة للصهيونية ولإسرائيل من جهة أخرى، وأبرزها الحملة العالمية لمقاطعة البضائع والاستثمارات في إسرائيل (BDS)، ومنظمة "سوليداريتي". حيث اكتفت جمعيات ومنظمات فلسطينية بتنظيم ندوات لم تتناول بطريقة منهجية وعلمية أبرز التحديات التي تواجه القضية والشعب الفلسطيني، وتفرغت بالتالي لترديد شعارات وخطابات مكررة. فيما تميزت المنظمات العالمية المذكورة بتقديم رؤى واضحة لأبرز النشاطات التي تكبّد إسرائيل خسائر مالية، من خلال تقديم أرقام ودراسات عن أبرز الإنجازات التي تمكنت هذه المنظمات من تحقيقها.
درور فارشفسكي فرنسي يهودي هو أحد الناشطين في الحملة العامية للمقاطعة، بدأ نشاطه فيها منذ تأسيسها في العام 2009، ثم انضم لاحقا إلى حركة "سوليداريتي".
تمكن فارشفسكي مع زملاءه في الحركة من إجبار الاتحاد العمالي الذي ينتمي إليه على قطع كل أشكال العلاقات مع اتحادات العمال في إسرائيل، لكنه يعترف بمدى صعوبة تعميم هذه الحالة على كافة الاتحادات في فرنسا، نظراً إلى طبيعة الشركات التي غالباً ما تربطها مصالح اقتصادية مع دولة الاحتلال.
أحد أهم أسباب مشاركة فارشفسكي هذا العام كان تنسيق إطلاق حملة مقاطعة شركة "أورونج" الفرنسية في تونس، باعتبار أنها تتعاون مع شركة اتصالات إسرائيلية اسمها "بارتنر"، لافتاً إلى أن الشركة الفرنسية تملك "موبينيل" المصرية، والأمر الذي سيكبدها خسائر فادحة في حال نجاح المقاطعة في البلدان العربية، أو سيدفعها إلى إنهاء علاقتها مع الشركة الإسرائيلية.
ألكساندرا ميكوزي صاحبة الأعوام السبعين التي خاضت نضالات نقابية في وجه السياسات الاقتصادية النيوليبرالية في ايطاليا، اختارت أن تستثمر كل الخبرات التي اكتسبتها خلال مسيرتها الطويلة في دعم القضية الفلسطينية. ميكوزي التي شاركت أيضاً في الهيئات التأسيسية للمنتدى الاجتماعي العالمي حضرت هذا العام كعضو في لجان التنسيق الأوروبية لدعم فلسطين (ECCP)، والهدف الأساسي توحيد جهود المنظمات العربية والعالمية الداعمة لفلسطين من أجل الضغط على الدول العربية لإيقاف التعاون مع الشركة الأمنية الدانماركية "G4S"، وهي الشركة التي تؤمن تجهيزات متطورة لحراسة المعتقلات الفلسطينية في إسرائيل.

ممنوعون من المشاركة

المنتدى الذي يحاول، قدر المستطاع، تأمين مساحة واسعة لكل القضايا العادلة في العالم، لا ينجح دائماً في ذلك. بعض المشاهد تؤكد الأمر. على أحد المداخل يقف شبان يرفعون لافتات كتب عليها: "يا صحافة أنا لاجئ أنصفني"، "ألا يحق لـ262 لاجئاً بأن تسوى أضاعهم؟"، و"نحن مضربين عن الطعام منذ يومين".
هؤلاء المعتصمون منعوا من المشاركة في المنتدى، لسبب بسيط، إنهم لاجئون من السودان وإريتريا وأثيوبيا وتشاد. هربوا من الحروب الدائرة في بلادهم، وأجبروا على البقاء في مخيم "شوشة" للاجئين في منطقة صحراوية تقع شمال البلاد. بحسب أحد المعتصمين، مضى على تواجدهم في المخيم أكثر من عام ونصف العام، والحل الوحيد الذي وفرته المفوضية العليا للإغاثة في تونس، هو الدمج القسري في المجتمع التونسي. ما يزيد الأمر سوءاً الصعوبات التي يواجهونها، من تعامل عنصري بسبب لون بشرتهم، والتمييز والاستغلال الذي يمارس بحقهم من قبل السلطات التونسية، وهو ما دفع بـ262 لاجئاً منهم إلى رفض الأمر الواقع الذي فرضته السلطات، فقرروا بداية الاعتصام أمام مقر المفوضية. وردّت السلطات بمحاصرة مكان اعتصامهم، لمنعهم من "التسلّل" إلى داخل العاصمة. إلا أن ممثلين عن كل بلد تمكنوا بطرق مختلفة من الوصول إلى العاصمة، والتوجه إلى مجمع المنار الجامعي حيث يقام المنتدى. اكتفى هؤلاء باعتصام رمزي يراد منه، حسب أحد المعتصمين السودانيين الذي هجّر من دارفور خلال المعارك التي نشبت بين الشمال والجنوب، أن يُسمع صوت اللاجئين.
داخل أسوار الجامعة انتقادات عدة طالت فشل المنتدى في تسليط الضوء على بعض المشاكل التي تبناها في وثيقته التأسيسية بعد انعقاده لأول مرة في بورتو اليغري، وأهمها حرية التجّول للذين لا يملكون أوراقاً ثبوتية. سيسوكو أزمان، المتحدث باسم الاتحاد الدولي للمهاجرين الأفراد الذين لا يمتلكون أوراقاً ثبوتية، عبّر عن خيبة أمله. يقول أزمان إن الجمعيات التي تعنى بهذه القضية نظّمت مواكب سيّارة جالت في عدد من الدول الأوروبية، قبل التوجه إلى تونس عبر البحر، لكنهم منعوا من الدخول. ورغم تأكيد أزمان أن الناشطين اجتمعوا مع القيّمين على المنتدى في أيلول الفائت، لإعلامهم بقدومهم، إلا أنهم لم يفعلوا شيئاً لتسهيل مرورهم ومشاركتهم. لذلك أجبر هؤلاء الناشطون على العودة من حيث آتوا، واكتفى عدد من الذين يناضلون من أجل هذه القضية، ممن يملكون أوراقا ثبوتية بالطبع، بإيصال الرسالة.