الأرض هوية وجودية

بقلم: 

الأرض في الذاكرة الفلسطينية تتعدى تعريف الجغرافيا، وتأكيد الوجود فوقها، في التاريخ الفلسطيني، هو تأكيد للهوية الجمعية، ولحقّها في تقرير المصير.

 

في الادعاءات الصهيونية، للأرض ذات الموقع المقرر، في القدرة على إشغال المكان، وفي طلب حرية التصرف بزمانه، وفي إعلانه وطناً مستعاداً، بقوة الخرافة، وبامتلاك كل أسباب القوة المادية. هكذا تغدو الأرض موضوع الصراع المركزي، وما يتناسل من العملية الصراعية هذه، يحتل مرتبة ثانوية ضمن التناقض الأصلي.

 

منذ ما يربو على القرن من الزمان، تصارعت في فلسطين الحقيقة التاريخية مع الأسطورة الدينية. رمى العالم الغربي بثقله، في رفع الخرافة إلى مرتبة المادية الدامغة، ورمى بأثقاله على كاهل المنطقة العربية عموماً، وعلى فلسطين خصوصاً، لتحوير وتليين معنى الحقائق الراسخة في الأرض والذاكرة والتاريخ. فعل «الغرب» ذلك، ليستعيد حقيقته من خرافته، وليطهر «علمانيته» مما علق بها من عنصرية حيال الأغيار، الذين كانوا جلّهم من اليهود، على مرّ القرون التي شكلت مداراً للنهضة الأوروبية والغربية.

 

استعادة العقل من لا عقلانيته، غربياً، ظلّت مقتصرة على فهم وتفهم ودعم المشروع الصهيوني فوق أرض فلسطين، وعلى السماح بسلب الفلسطينيين كل ما يملكون، من خفقات قلوب ومن حبات تراب. السماح بوجهيه، ما زال يشهد على لا عقلانية الغرب، الذي ظن أنه استعاد عقله. مضمون الشهادة على اللاعقلانية الغربية، مجانبتها للأخلاق وللوقائع، إذ بمعيار رفض الظلم والقهر والقمع، وقع على الشعب الفلسطيني صنوف من العذاب، المدعوم غربياً، وبمقياس إعلاء شأن التحليل المادي، وتنزيه السياسة عن تديينها، تعرض الشعب ذاته، والشعوب العربية، لأفظع تديين للسياسة، بحيث بدا وكأن الغرب يقرأ في كتاب التوراة وأسفار الأنبياء اليهود المزعومين، عندما يتعلق الأمر بالأرض الفلسطينية. لكأن ما يقود هؤلاء، في اندفاعهم للدفاع عن «أرض إسرائيل»، مزاعم قلعة مسادة، ولكأنهم يرددون مع مغتصبي الأرض: «مسادة لن تسقط ثانية»، لنا أن نسأل من الذي أسقطها ولو زعماً؟ ولنا أن نجيب أن ذلك كان في عهد الرومان!! هذا لنؤكد مجدداً أن الغرب كان مسؤولاً عن المأساة اليهودية، منذ القدم، وحتى مطالع القرن العشرين.

 

لكن، ولأن المطلوب مواجهة الحاضر، وعدم التوقف عند مراجعة التاريخ، فإن السؤال الملح، الذي ردده غيرنا، هو: لماذا حصل معنا ذلك؟ وليس لماذا فعلوا بنا ذلك؟ ويصير السؤال نابضاً أكثر، في ذكرى يوم الأرض، الذي يحييه الشعب الفلسطيني في نهاية آذار من كل عام، في استعادة حارة، لذلك اليوم الهام من عام 1976، عندما انتفض الداخل الفلسطيني نصرة لمثلث يوم الأرض، ورفضاً لخطة تهويد الجليل، أي رفضاً لاستكمال الاستيلاء على هوية الأرض، الذي إن نجح، صار الشعب الفلسطيني بعده جالية غريبة، ويداً عاملة مهاجرة فائضة، تقتضي «الحصافة الوطنية الداخلية» الإسرائيلية، التخلص منها، أو التخفيف من أعبائها! ومن تداعيات حضورها الغريب، بين ابناء القومية «الخالصة» الواحدة!!

 

وكما هو معروف من يوميات فلسطين، فإن يوم الأرض يشكل مدار تحركات أيام السنة كلها، إذ إن كل يوم فلسطيني هو يوم الأرض، لأن كل يوم من السنة، هو يوم صهيوني أيضاً. تدور الأيام في الأرض السليبة بين حدَّي التشبث الفلسطيني بالجذور، ودأب الإسرائيلي على اقتلاع هذه الجذور، وبكل الوسائل. يرفع النضال الفلسطيني اليوم راية التصدي للاستيطان، ليفند مقولة أن الأرض كانت بلا شعب، وينتشر السرطان الاستيطاني ليستحوذ على كل شيء يعتبره ملكاً للشعب العائد من «الدياسبورا» القسرية. لا تتكافأ شروط المعركة المصيرية اليوم، مثلما لم تكن متكافئة في الماضي. فلقد أضاف الإسرائيلي إلى حسابات القوة لديه، عناصر عدة من عناصر التراجع العربي، على رغم التطورات الأخيرة، التي يعطيها الكثيرون صفة «الربيع»، الذي لم ينتسب بأزهاره المتخيلة إلى أي ريحان فلسطيني ملموس. تقول الوقائع إن الفلسطيني يلامس وضعية سجنه ضمن حلقة الاستفراد، وأن «الداخليات» المنبعثة بعد طول غياب، لم تعلن ارتباطاً وازناً أو مفهوماً بما حولها من «خارجيات»، يأتي في طليعتها الخارج الفلسطيني، الذي، وفي المناسبة، لم يكن خارجاً أبداً بالنسبة إلى أي «محلية» عربية، بل كان داخلاً له سماته وظروفه وتفاعلاته مع كل محلية، بالتناسب مع خصوصيتها، وبالتقدم عليها في أكثر من مجال. يستظل الإسرائيلي حالة تراجع البند الفلسطيني على جدول أعمال «الأمة العربية»، فيوغل في قضم مقومات أرضه، بما تختزنه من معنى الوجود والهوية وإمكانية انبعاث الشخصية الوطنية المستقلة، ضمن إطار مكاني محدد المعالم. تناقض آخر، ففي حين تتخلص الشعوب العربية، من تخاذل حكامها، قومياً، فإنها لا تبادر إلى تعويض الفوات القومي لدى أنظمتها، باتصال متجدد بالقضية الفلسطينية، فتخفف خطاب الديماغوجيا والقهر والقمع الذي مورس على الأوطان المختلفة، باسم التفرغ لصراع العدو الإسرائيلي، وأنتج التخلف المضاعف، الذي فاقم من عناصر الهزيمة العربية.

 

خطب «الإسلاميين» حالياً، تعود إلى الشعائر أكثر مما تهتم بالقضايا الكبرى، وفي سياق الخطاب الثأري من القوميات وإرثها، تختزل الأرض ببعض معالمها المقدسة. هذه الأخيرة على أهميتها، تشكل مادة للتعبئة الحماسية، لدى القادمين الجدد إلى حكم بلدانهم، وباباً خلفياً للخروج السهل من مترتبات الأرض الفلسطينية وقضاياها.

 

وفي امتداد ذلك، تتخذ الأوضاع اتجاهات ثلاثة: وضع عربي مفتوح على شؤون وشجون ومقاربات «إسلامية»، بعد أن قضى عقوداً تحت ظلال «القومية»، ووضع فلسطيني يصارع لئلا تنحسر رقعته الوجودية فوق أرضه، ووضع إسرائيلي يتقدم حثيثاً باتجاه التهويد. ماذا ستكون عليه الحصيلة؟ ليس أقل من خسائر متزايدة في كل الأرجاء العربية.

المصدر: 
الحياة