بصدد الكلمة السحرية: "الشعب"*

يتحدث المؤرخون عن فترات حكم فيها طغاة مدناً يونانية. أما ابن خلدون فيتحدث عن "الاستبداد"، وهناك فرق. فالاستبداد عنده ليس طغياناً مذموماً في حد ذاته، بل هو طور من أطوار الدولة يتفرد فيه الملك بالحكم، وهو "طور الاستبداد على قومه والانفراد دونهم بالملك وكبحهم عن التطاول". الاستبداد إذاً هو تفرد بالحكم وهو طور طبيعي من اطوار الدولة، وضروري لحفظ الأمن ودرء الفتنة. وهو ليس سيئاً بإطلاق إلا اذا كان ظالماً. وليس كل استبداد عنده ظالماً، والاستبداد الظالم ليس سيئاً لأنه حكم جائر وحسب، وانما أيضاً لأنه مؤذن بأفول الدولة وخراب العمران.

ليس هناك في التصور الخلدوني سوى الحكم الاستبدادي، أي حكم الحاكم المنفرد، وهو هنا لا يختلف عن غيره من مفكرينا القدماء. وما دام الأمر كذلك، فالرجاء معقود على حاكم مستبد عادل، والأفضل أن يحكم بالشريعة، أو يزاوج بين احكام الشريعة وضرورات وأحكام الملك، والغاية ان يحفظ الأمن، والا ينزلق الى استبداد ظالم يخرب العمران ويؤذن بنفض الدولة من الأساس.
لم يكن "الشعب" مفهوماً سياسياً عند قدمائنا، بل ان الكلمة لم تكن تعني ما نعنيه بها الآن. فكلمة الشعب في قواميسنا القديمة معناها القبيلة العظيمة، أو الحي الذي يتشعب من القبيلة. فالكلمة تعني الجمع كما تعني التشعيب والتفريع. والكلمات التي هي في معنى الشعب تحمل معاني مستهجنة، مثل كلمة "العامة"، فقد "سميت كذلك لانها تعم بالشر". وكذلك كلمة "الغوغاء" فهي تعني "الجراد المنتشر، وقد استعيرت الكلمة لتعني السفلة من الناس". كذلك كلمة "الدهماء"، فالأصل في معناها "كثرة الناس"، ولكنها تعني ايضاً "الفتنة السوداء المظلمة". أما كلمة "الرعاع" فهم "سقاط الناس وسفلتهم". وتناظرها ايضاً كلمات اجنبية مستهجنة، وكلها تربط الشعب بالفقر والجهل وسرعة الهيجان.
لكن، وفي حقبة من تاريخ الفكر السياسي الحديث، نشأ مفهوم جديد للشعب، فأصبح يتحدث عنه كفاعل سياسي كلي، وكأنه ذات واحدة، قادر على الاهتداء بفطرته إلى الصواب والمصلحة العامة، وأنه صاحب السيادة ومصدر السلطات. ولعل روسو (1717 1778) هو الذي بلور هذا المفهوم الكلي للشعب الواحد السيد، صاحب الارادة العامة المشرعة والحاكمة، بل هو لا يريد أن تقوم وسائط بين الشعب وارادته العامة من تمثيل وتفويض، فقد رفض النظام التمثيلي: "ان السيادة لا تفوّض بالنيابة، كما انها للسبب نفسه لا تفوت (...) فحين يكون للشعب نواب يمثلونه فإنه آنذاك لن يكون حراً".
ليس عند روسو تلازم بين الارادة العامة والشعب، فحيثما تداول الشعب وقرر يجري قراره دائماً وفقاً للارادة العامة: "ان الارادة العامة صائبة أبداً، وتسعى دائماً الى النفع العام، ولكن ذلك لا يترتب عليه ان مداولات الشعب يحالفها دائماً السواد".
تبقى ارادة روسو العامة معلقة الى ان يوجد لها شعب مستنير. فهل وجود هذا الشعب شرط للديموقراطي؟ لا جواب عند روسو. لكن الجواب جاء من طرفين ترتب عليهما موقفان: موقف الطرف الاول الذي قال بضرورة مستبد رشيد يتقمص الارادة العامة المستنيرة في حد ذاتها ويرفع الشعب الى مستواها ومستواه لانهما اصبحا شيئا واحداً؛ والموقف الثاني يرى ان الديموقراطية لا بد لنجاحها من تربية الشعب عليها، فلا ديمقراطية من غير شعب متشبع بالقيم الديموقراطية.
لقد نشأت ايديولوجيا شعبوية رفعت الشعب الى درجة العصمة، وشملت الخطاب السياسي والانتاج الادبي والاسطوغرافيا. فالشعبوية السياسية بضاعة اليسار الذي يحسب نفسه حزب الشعب، كما هي بضاعة اليمين المتطرف. وقد انتقلت ايديولوجيا الشعب من مجال الفكر السياسي الى مجال الادب والتاريخ. فمنذ القرن التاسع عشر نشأ ادب جعل ابطاله من عامة الشعب. يسرد حياة الشعب اليومية بأسلوب يتفادى الأسلوبية، ويجري حوارات شخصياته بلغة تحاكي لغة الشعب. وفي القرن التاسع عشر نفسه يبرز مؤرخ فرنسي كبير يكتب التاريخ بنفس رومانسي ويريد ان يجعل الشعب بطله، وهو جول ميشليه (1798 1874)، يقول: "اما في ما يخصني فاني آمل لعلمي ولدراستي الأثيرة التاريخ ان تستمد عنفوانها من حياة الشعب". وإلى جانب كتاباته التاريخية، وبخاصة كتاباه الكلاسيكيان: تاريخ فرنسا وتاريخ الثورة الفرنسية، فهو يضع كتاباً عنوانه الشعب، يكتبه برومانسية مفرطة: "لقد انطقت في هذا الكتاب اولئك الذين لا يعلمون ما اذا كان لهم حق في هذا العالم، أي كل الذين يئنون ويتألمون في صمت، (انهم) شعبي". لقد نفض يده من الطبقة البورجوازية لأنها في رأيه كانت ثورية حين قامت بثورتها الفرنسية ثم أصابها الترهل. أما الشعب فهو يحمل حرارة الحياة والتفاني في العمل، ويسميهم "البرابرة" في تحد وإصرار، ويعد نفسه منهم: "إن لنا نحن البرابرة فضل طبيعي، فإذا للطبقات العليا الثقافة، لنا نحن حرارة الحياة"، أما "المثقفون المتأنقون (...) فهم يحلقون فوق السحاب".. الى غير ذلك من عبارات شعبوية من مؤرخ كبير.
يقرأ فيلسوف المذهب الفوضوي، برودون (1809 1865) كتاب ميشليه عن تاريخ الثورة الفرنسية فيبعث اليه من سجنه رسالة اعجاب بالكتاب. ولكنه يبدي أيضاً ملاحظات تتعلق بمفهوم الشعب. ليس هناك عنده شعب مبادر مقدام في كل الاوقات، فهو لا يكون كذلك الا في فترات تاريخية استثنائية، إذ سرعان ما يخبو عنفوانه فيسقط في الزمان العادي. والقضية عند برودون هي كيف يظل الشعب مبادراً صانعاً مصيره ليس فقط في اللحظات التاريخية الاستثنائية، وإنما في مجرى زمانه العادي أيضاً. والواقع ان قضية برودون هي قضية الديموقراطية نفسها: كيف يمكن الانتقال من ديموقراطية متصورة كعقيدة وكأنها دين، الى ديموقراطية مؤسسة كنظام.
لقد خاض برودون في المسألة الديموقراطية التي ثار النقاش حولها في القرن التاسع عشر الأوروبي لسببين: الأول، إقرار مبدأ الاقتراع العام، والثاني ظاهرة الحشود والجماهير التي أصبحت فاعلة على مسرح المجتمع والسياسة. في ما يتعلق بالاقتراع العام السؤال هو التالي: اذا كان الاقتراع العام يقوم على التمثيل العددي، فهل يعكس صورة المجتمع بمختلف قواه ومصالحه واتجاهاته، أم يفضي الى مجتمع مشتت، أفراده كالذرات؟ وينشأ علم الاجتماع بالذات ليصحح هذا التصور للمجتمع كتجميع أفراد، ويقدم صورة اخرى هي ان المجتمع كيان عضوي، وهو شيء آخر غير مجموع أفراده. وهكذا أحدث علم الاجتماع الناشئ قطيعة مع ايديولوجيا الثورة الفرنسية، المطبوعة بفلسفة روسو التي تصورت المجتمع افراداً يجاور بعضهم البعض الآخر، قائماً على عقود ومواضعات، فقال واضعو السوسيولوجيا ان المجتمع كيان آخر غير تجمع عددي لافراده، وهو متميز عنهم بمنطقه وظواهره. وقال المقتدون منهم بعلوم الحياة ان المجتمع جسم عضوي. والسؤال هو كيف يكون التأليف بين الفردانية الديموقراطية والنظرة العضوية الى المجتمع، وكيف تتحقق بالملموس سيادة الشعب؟ هذا السؤال يتعلق بشكل التمثيل النيابي: كيف يعكس هذا الاخير صورة المجتمع كما هو ويتفادى شيئين: ان يخرج من صناديق الاقتراع مجتمع متحلل، عبارة عن افراد مشتتين، أو ان يعيد احياء بناه العتيقة، ضداً على مبادئ العدل والانصاف والمساواة؟
ان الحجة التي يلجأ اليها من يقولون ان الشعب كما هو على حاله ليس أهلاً للديموقراطية هي جهل الشعب، وهي حجة قديمة ظلت قائمة منذ فلاسفة اليونان الى يومنا هذا. وهي حجة المثقفين عموماً حين ينتقدون الديموقراطية. لكن لا بد من تدقيق. فمعروف ان المثقفين هم عادة أكبر المدافعين عن الديموقراطية، بيد أنهم يكونون دعاتها في مواجهة نظام استبدادي كان يصنع صنعاً برلمانه، ويبدأ الشعب ينتخب نوابه كما حصل أخيراً بعد سقوط أنظمة عربية استبدادية، حتى يتغير موقف المثقفين. فالذين انتخبهم الشعب ليسوا هم الذين أرادهم المثقفون دعاة الحرية والدولة المدنية والمساواة في المواطنة بين الرجال والنساء وفي موضوع الأقليات، بل دعاة دولة الشريعة. وهكذا فإن شعبوية المثقفين قد انقلبت عليهم لتحل محلها شعبوية الاسلاميين.

[ اسطورية
كان للمثقفين دور أساسي في خلق صورة اسطورية للشعب أشبه بالصور الأفلاطونية، التي هي ثابتة في سماء الفكر المجرد، كل صورة يحاكيها من دون أن يبلغ صفاءها عدد لا حصر له من الموجودات الواقعية الشبيهة. شعب المثقف الالتزامي هو "أنا" المثقف وقد تضخمت فصارت في حجم الشعب الكلي. يسقط عليه المثقف ما يريده لذاته أن يكون: حراً، عادلاً، وطاقة للثورة. هو لا يريد للثقافة أن تكون كما يقال نخبوية أو طبقية. المبدع عنده هو الشعب، والمثقف ترجمانه، وإلا كان حمّال وعي زائف.
صورة الشعب التي صنعها المثقفون ما لبثت أن تبخرت حين ذهب الشعب إلى صناديق الاقتراع في أول انتخابات غير مصنوعة. ذلك بأن نتائجها ما كانت سوى انعكاس لحقيقة الشعب. فالديموقراطية إذا اختُزلت في مجرد انتخابات فهي لا تأتي بشعب في مستوى قيمها المتكاملة التي تجعل مرجعيتها قيم ومبادئ حقوق الانسان ما دام هذا الشعب على حاله ولم تغير هذه القيم من عقليته وعاداته. فهل ينفض المثقفون أيديهم من الشعب والديموقراطية معاً، ما دامت هذه الأخيرة تعبّر عن شعب ما زالت تقوده عقليات وسلوكات مختلفة؟ ليس الشعب والديموقراطية متلازمين، فالتقريب بينهما يقتضي عملاً دؤوباً مزدوجاً، فهو من جهة نضال فكري لتغيير العقليات، وهو من جهة ثانية نضال سياسي لرفع الشعب السوسيولوجي إلى مستوى المرجعية الديموقراطية بقيمها المتكاملة. فالقضية لا تتعلق بنموذج للديموقراطية مهيّأ لها تلقاء شعب خيالي، أو حمل الشعب قسراً على الارتفاع إلى مستوى نموذج الديموقراطية، لأنّ ذلك يعني اللجوء إلى وسيلة غير ديموقراطية لفرض الديموقراطية. وهو تناقض لأنه يعني فرض الديموقراطية بوسيلة استبدادية، ثم انه لم يحصل في تجارب الامم ان نجح نظام ديموقراطي بفرضه قسراً.
نحن الآن نجرّب ما جرّبه غيرنا، على الرغم من وجود اعتقاد بأننا نجرّب ونؤسس لأول مرة. نحن الآن نجرّب محاولة الانتقالة من شعب الشعبوية الواحد الموحّد المتعلق بفطرته السليمة بالحرية والعدالة والمتقبّل تلقاءً للديموقراطية، إلى الشعب المتعدد الاتجاهات السياسية والعقائدية والمصالح الطائفية والفئوية، وكيف يمكن تدبيرها ديموقراطياً لأنّ الديموقراطية في دولة مدنية هي أفضل نظام لتدبير التعدد في المجتمع.
تضع الشعبوية الشعب في مواجهة النخب. تحارب الطبقية ولو انها ليست لها طبقة محددة، بل هي هلامية تخترق الطبقات. تدّعي التعبير عن الشعب بكامله ضداً على النخبة التقنوقراطية والقلة التي تحتكر السلطة والثروة.
قد تكون الشعبوية يسارية كما قد تكون يمينية. هي يسارية حين ترفض البرلمانية التمثيلية لكونها لا تمثل الشعب بقاعدته المجتمعية، فتدعو إلى ديموقراطية شعبية مباشرة. وهي يسارية حين ترفع مطالب الشعب في الشغل والسكن والتمدرس والرعاية الصحية.. وهي يمينية حين تدعو إلى وطنية منغلقة قد تبلغ حد العنصرية، وإلى إيقاف الهجرة وطرد الأجانب، وترفع شعار الهوية الإقصائية، وتحارب العولمة. في أواخر القرن ما قبل الماضي نشطت في أميركا حركة شعبوية تذكّر بأنّ الشعب هو أساس الديموقراطية الأميركية، انطلاقاً من الدستور الأميركي الذي يبدأ بعبارة "نحن الشعب". وفي الحقبة نفسها راجت في روسيا شعبوية دعت إلى التمسك بالهوية الروسية الخالصة، هوية الشعب السلافي. وهي يمينية عندنا في ما يسمى الإسلام السياسي حين تماهي بينها وبين الشعب.
للشعبوي ما يبررها في التوق إلى العدل والعدالة. وقد تتجمع ظروف لحشد الشعب فيقوم بثورته العارمة لاسقاط نظام استبدادي، لكن تصور الشعب ككائن كلي وكفاعل جماعي في الأحداث لم يحصل إلا في العصر الحديث، ولو ان له جذوراً في اليونان القديمة. وتفسير ظهور مفهوم الشعب في اليونان القديمة وفي الغرب الحديث هو ان الديموقراطية هي التي تعطي للشعب الحق في اختيار حكامه في اليونان القديمة ثم في العصر الحديث.
هذا الاقتران بين الشعب والديموقراطية لم يخلُ من تناقضات بينهما حين يتصور انهما توأمان، لكنهما لا يتطبقان. فالشعبوية قد تفضي الى نسف الديموقراطية، حين تأتي باستبداد أغلبية أو بحاكم يستبد باسم الشعب مدعياً انه والشعب ذات واحدة.
من أين جاء إذاً الاعتقاد السائد في تطابق الشعب والديموقراطية؟ لقد جاء من اعتقاد آخر: وهو ان الشعب في حقيقته واحد موحّد كالبنيان المرصوص، وأنّ المساواة بين الناس حق وفضيلة، فجاء التعريف الاولي للديموقراطية بأنها حكم الشعب. لكن عن أي شعب نتحدث؟ هل هو الشعب السوسيولوجي أم هو الشعب السياسي كما ينبغي أن يكون؟ ولا سيما إذا كانت الهوة شاسعة بينهما فيُستعمل الشعب السياسي استعمالاً ايديولوجياً ليغطي على الشعب كما هو.

[ التعددية
وإذا كانت الديموقراطية أيضاً هي تدبير التعددية فليست تدبيراً لأي تعددية، بل لتعددية المجتمع الديموقراطي الحديث بمنظماته السياسية والمهنية وتنظيمات المجتمع المدني. أما المجتمع التقليدي بعشائره وطوائفه فهو مجتمع من دون الدولة المدنية الديموقراطية، وهو ليس مؤهلاً للتدبير الديموقراطي.
لقد راج أخيراً خطاب يدعو إلى التعددية، بعدما راج من قبل خطاب الوحدة. لكن أي تعددية. فالتعددية التي ورثناها هي تعددية المجتمع الطائفي أو العشائري، وهذه ليست تعددية المجتمع الديموقراطي الحديث. بل حتى الأحزاب تنشأ في المجتمع الطائفي والعشائري تلتصق بهياكل المجتمع التقليدي فتكون في حقيقتها طائفية أو عشائرية، واذا أرادت أن تكون أحزاباً مدنية فهي تظل ضعيفة لضعف بنى المجتمع الحديث ولاكتساح النظام السلطوي كل المجال العام، ولضعف قاعدة الاقتصاد الحديث. ليست التعددية التي ينبغي نشدانها هي تلك التي تستنسخ بنى المجتمع القديم، بل تلك التي تبدأ بالأفراد المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم القبلية والطائفية في دولة مدنية ديمقراطية.
ان أحد المطالب في الدول العربية في حقبة ما يسمى الربيع العربي هو الاستقرار لكن على أي أساس؟ فالاستقرار المنشود هو غير الاستقرار الذي عرفته بلداننا تحت الأنظمة التسلطية التي أسقطتها الثورات العربية، لأنه استقرار قام على قوة السلطة التسلطية مغلفاً بشعارات لتبرير استبدادها. فالاستقرار المنشود هو استقرار يقوم على توافق المواطنين أو أغلبة على قيم مشتركة. يرى رولز ان الاستقرار يقوم على التوافق على قيمتين أساسيتين: الحرية والعدالة. وهو يفترض لذلك "مجتمعاً ديموقراطياً دستورياً حديثاً" يكون فيه "المواطنون أحراراً متساوين يتعاونون تعاوناً كاملاً في مجتمع مدى حياتهم". فهو يحيل إذاً إلى المجتمعات الغربية الديموقراطية الحديثة. فما الذي يضمن التوافق على هذه القيم خارج هذه المجتمعات الغربية الحديثة، بل وداخل هذه المجتمعات نفسها من جانب أقليات ذات ثقافات مختلفة؟
انه ليمكن الاتفاق على القيم إذا ظلت في معناها العام ولم تفصل تفصيلاً. ومن ذلك قيمتا الحرية والعدالة المذكورتين؛ فالحرية يمكن الاتفاق العام عليها اذا كانت تعني التحرر من استعمار خارجي أو من استبداد محلي. لكن هذا الاتفاق لن يكون مضموناً إذا دخلنا في التفاصيل، أي حين يتعلق الأمر بحرية التفكير والاعتقاد، او بحرية المرأة. والعدالة تبدو أيضاً قيمة جامعة، إذا كانت تعني رفع الظلم عن الناس، لكن المشكل في التفاصيل، إذ لن يكون الاتفاق مضموناً اذا كانت تعني المساواة الكاملة في المواطنة، ومساواة بين الأديان والطوائف والاثنيات، وتكافؤ الثقافات، والمساواة بين الرجال والنساء في الحقوق والواجبات أيضاً.
لن يستطيع أحد التنبؤ بمستقبل الدول العربية التي حصلت فيها انتفاضات شعبية. لكن الأكيد انها دخلت مرحلة الصراع حول تفاصيل المجتمع المنشود. لذلك سيحل التوافق على القيم محل السلطة الرعناء في إثبات شرعية النظام. والصراع قد بدأ حول طبيعة الدولة في المستقبل: هل هي دولة الشريعة أم الدولة المدنية الديموقراطية؟ وهذا يعني الدخول في تفاصيل القضايا التي كانت تفاصيلها تُطمس في العموميات، وحين كانت كلمات برّاقة كبرى تبسط رداءها على واقع معقد. وكما ان السلطة الشمولية توحد قسراً ما هو مختلف ومتنوع، فكذلك الكلمات الضخمة توحد قسراً الاختلاف والتعقيد والتنوع، ومنها كلمة الشعب.
نحن الآن نختبر ما سبق أن اختبره غيرنا في صدد هذه الكلمة السحرية: "الشعب". فهو قد يبزغ كفاعل جماعي وكتلة موحدة فيطيح نظاماً استبدادياً، ثم تأتي حقبة صعبة قد تطول، حين يتفكك هذا الشعب الذي كان موحداً فتتوزعه المصالح والعقائد والقيم، وهو ما هو حاصل الآن، فيبرز تياران كبيران: تيار إسلامي يحسب نفسه هو الشعب يدمج السياسة بالدين، وما دام الشعب كله أو اغلبه مسلماً فهو يستمد شرعيته إذاً من الإسلام دين الشعب، ولا يعترف بشرعية خارجه وخارجها. وهذا التيار الإسلامي بطبيعته شمولي لا يمكن إلا أن يولد استبداداً في السلطة، وتنظيماً اشبه بنظام الجيش منه بنظام حزب ديموقراطي، وعلى رأسه زعيم مرشد تحف به هالة العصمة. وتيار آخر يتطلع إلى دولة مدنية، ولا يحسب الشعب كتلة صماء كالبنيان المرصوص بل متعدد بتنظيماته السياسية والمهنية والجمعوية، أساسه مواطنون يربطهم رباط المواطنة لا الدين أو الطائفة أو العشيرة، يتوافقون على قيم مدنية كالديمقراطية والمساواة في المواطنة ومدنية الدستور والقوانين.
سيظل هناك حنين إلى استرجاع اللحظة التاريخية الاستثنائية التي هب فيها الشعب فاعلاً كلياً موحداً لإسقاط نظام استبدادي. لكن هذه اللحظة قد ولّت، ليعقبها الزمان العادي للسياسة. وهو زمان المدى الطويل الذي سيشهد صراع التيارين المذكورين اللذين لكل واحد منهما مشروع: دولة الشريعة أو الدولة المدنية الديموقراطية.
لقد انتهت اللحظة التي بزغ فيها الشعب واحداً متكتلاً ليتعدد. فهل هذا التعدّد سيكون تعدد المجتمع الحديث بمنظماته العصرية، أم هو تعدد يستنسخ التعدد القديم بتنظيماته الدينية والطائفية والقبلية ولو اتخذ له مسميات حديثة؟ هذا ما سوف يسفر عنه المستقبل.
ان المثقف أشد دعاة المساواة حين يكون في نظام يكرس تفاوتاً بين الناس غير قائم على الجدارة. وهو إنما يعبر عن وضعه هو. ومن هو أجدر من المثقف في رأي المثقف بالاعتبار والتميز؟ وبما ان نظام قيم الاعتبار والاعتراف بالتميز الذي يكرسه نظام السلطة غير قائم على معايير الجدارة كما ينبغي أن تكون، بل على تفاوت لا يعتمد الانصاف، فإنّ المثقف يكون أكثر الدعاة إلى المساواة. لكن ما ان يصبح هذا المجتمع ديموقراطياً ويصبح "المولع بالمساواة ولعاً شديداً" كما هو الحاصل في المجتمع الأميركي كما لاحظ دو توكفيل، فإنّ هذا المثقف ينفر من هذه المساواة التي تطمس فردانيته وتميزه كمثقف. يكون المثقف إذاً داعية إلى الديموقراطية كما الى المساواة حين تكونان مطلباً، أما حين تحقق ديموقراطية المساواة، وبخاصة في الانتخابات حين يكون صوت المثقف في الاقتراع مساوياً لصوت أي كان من الناس، فإنّ غيرته على فردانيته وشعوره الذاتي بالتميز تصبحان راجحتين على ديموقراطية المساواة هذه.
الديموقراطية لا تختزل في العملية الانتخابية، وإلا كان كل مجتمع ديموقراطياً لمجرد حصول انتخابات فيه. ان الديموقراطية هي أكثر من ذلك؛ فهي تتطلب انتشار الثقافة الديموقراطية بحرياتها في الرأي والتعبير والعقيدة، والقبول بالتعددية والحق في الاختلاف، والقبول بنتائج الانتخابات لتسهيل تداول السلطة. وتتطلب الديموقراطية انتشار تعليم حديث ينشئ على القيم الديموقراطية، وقاعدة واسعة لاقتصاد حديث، ومجتمعاً أساسه المساواة في المواطنة وليس الولاء الديني والطائفي والعشائري. فالشعب الواحد الموحد المريد اذا ظهر في لحظة تاريخية استثنائية يكون الاعتقاد في استمراره فاعلاً كلياً موحداً وهماً من الأوهام. بل هو متعدد ينبغي أن يدار تعدده بتنظيماته الحديثة لا بالتنظيمات الدينية والقبلية العتيقة، وذلك بالآلية الديموقراطية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* فصل من كتاب «أفكار مهاجرة» للمفكر المغربي د. علي أومليل  الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت ـ والفصل يحمل في الكتاب عنوان « الشعب والشعبوية»

 
معد الدراسة: 
علي أومليل