هل يحمل أوباما ضمانات لاستئناف عملية السلام؟!

بقلم: 

 

لطالما تأرجح الفكر السياسي العربي في رؤيته للعلاقات السياسية مع القوى العالمية وتقويمه لها في مراحل تطوره بين طوباوية ساذجة سطحية ونقيضها القائم على العداء المطلق والإدانة الصارمة والتي لا تقل سذاجة وسطحية عن الحالة الأولى. ففي الحالة الأولى كنا دائماً نعتقد أن تلك القوى أشبه بمؤسسات إنسانية خيرية نقية شغلها الشاغل هو خدمة الإنسان ونصرة الشعوب، أما في الحالة الثانية فكنا نناصب تلك القوى العداء والكراهية، نكيل لها التهم بالسعي وراء مصالحها وتوظيف علاقاتها معنا لتوسيع هذه المصالح وبسط نفوذها.

إلا أن تراجع المشروع القومي العربي وتعرض أنظمته ورموزه الى هزائم مدوية وسقوط المنظومة الاشتراكية (1989) واستعصاء إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية وصعود الإسلام السياسي راح يحدث تغييرات أساسية وجوهرية في فكرنا السياسي وفي رؤيتنا لطبيعة العلاقات القائمة بيننا وبين العالم الخارجي وبالأخص تلك القوى العظمى وعواصم القرار الدولي، فرحنا ندرك أن ثمة مصالح بحتة بل منافع هي التي تحكم سياسة هذه القوى حيالنا ليس إلا.

والمثال الصارخ على صدق ما نقول هو السياسة الأميركية في الشرق الأوسط. ولعل سقوط المنظومة الاشتراكية بعملاقيها السوفياتي والصيني وتحول هاتين القوتين الى دولتين كبيرتين رأسماليتين قد شكّل منعطفاً حاداً في تفكيرنا حيث بلغنا سن النضج والرؤية الواقعية فأصبحنا نرى هذه العلاقات جميعاً بواقعية أكثر ووضوح أقرب للعملانية والمصالح المباشرة.

لقد أعاد حدث أيلول (11-9-2011) وتدخّل أميركا والتحالف الدولي في حرب أفغانستان ثم تورط هذا التحالف نفسه في حرب العراق (2003) الى الواجهة الأولى السياسة الاميركية في العالم، هذه السياسة التي كانت ما زالت تحمل اثار وتداعيات وتبعات تورط أميركا في فيتنام والتي ألحقت هزيمة منكرة بتلك السياسة. فبداعي محاربة الارهاب الدولي تدخلت اميركا عسكرياً في هذه المنطقة البالغة الأهمية، فالآمال المعقودة عربياً على قدرة الأحادية الاميركية التي خلا لها جو معترك السياسة الدولية، بإيجاد حل عادل لقضية الشرق الأوسط، راحت تصطدم بواقع جديد حيث اصبحت الولايات المتحدة طرفاً اقليمياً معنياً بأحداث المنطقة ـ فالذين كانوا يعتمدون على الدعم السوفياتي راحوا يبحثون محبطين مهزومين عن قنوات ما للحوار مع الأحادية الاميركية.

لقد أدركنا متأخرين ان لأميركا هاجس طاغ في منطقتنا ألا وهو: أمن اسرائيل ومنابع النفط. أما ما عدا ذلك فهو تفاصيل ثانوية تلي هذا الهاجس بل تتفرع منه وترتغد من معطياته. لا بل رحنا نصل الى استنتاجات مريرة حول الشرق الأوسط الجديد وهو مشروع سياسي قيد التنفيذ والذي فتح أعيننا على ما يسمى بالفوضى الخلاقة عنوانها الآخر الصراع الطائفي والمذهبي في بلادنا.

لقد سقطت نظريات كيسنجر التي طالما اعتبرت ان الديكتاتوريات العسكرية في العالم الثالث هي خير ضمانة لمصالح اميركا. كما ان هذه الديكتاتوريات التي طرحت طويلاً شعارات وطنية وقومية باتت عاجزة عن الاستمرار في سياسة الأجهزة الأمنية والقمعية، بل عاجزة عن مواجهة مشكلاتها الاقتصادي والاجتماعية، فالفقر والتعاسة والتهميش ومصادرة الحريات وتعطيل مؤسسات المجتمع المدني كانت السمات السائدة التي طبعتها.

على الصعيد العربي ظلت السياسة الاميركية تتوافق مع الأنظمة الديكتاتورية لا سيما ان المشروع القومي العربي قد هزم (حزيران 1967) وان المقاومة الفلسطينية لم تستطع ان تبلور جبهة ثورية متراصة قادرة على مواجهة عسكرية مع اسرائيل، فالسياسة الاميركية هي التي محضت تأيياً ثابتاً لنظام بن علي في تونس، ونظام مبارك في مصر وهي التي ورطت نظام صدام حسين في حروب متواصلة، وهي التي تناغمت مع طموحات حافظ الاسد الاقليمية في لبنان هذا الذي ذهب بعيداً لحد محاولة الامساك بالقرار الوطني الفلسطيني.

يصف لنا الرئيس اللبناني الراحل كميل شمعون تلك السياسة بالقول "إن الاميركي هو ذلك الشخص الذي يدعوك لمرافقته الى الطبقة العليا في ناطحة السحاب في نيويورك لحل مشكلة مستعصية تلك والذي فجأة عند الطابق الأربعين وعند توقف مريب للمصعد يقول لك، استميحك عذراً، أنا مضطر الآن لتركك تتابع الصعود لوحدك، ثمة احتمال ليس مؤكداً ان أعود للحاق بك فيما بعد". لقد أدرك كميل شمعون آنذاك هذه الحقيقة اثناء أحداث 1958 في لبنان، في صراعه مع عبد الناصر عندما أطاح انقلاب عسكري بالنظام الملكي وحكومة نوري السعيد وحلف بغداد بضربة (14 تموز) فاذا به يشاهد في اليوم التالي قوات المارينز تنزل الى الشاطئ في خلده من دون علم مسبق منه. والحق ان القوات الاميركية لم تأت لتثبيت وضعه الصعب آنذاك، بل لتكون نهاية النفوذ السياسي البريطاني الفرنسي شرقي السويس.

عام 1963 أطاح انقلاب البعث بالحكم في كل من العراق وسوريا، ومن اللافت بمكان ان نتذكر تصريح أحد اركان الانقلابيين في العراق آنذاك بالقول: "جئنا الى الحكم بالقطار الاميركي ونرحل عنه بالقطار الاميركي ايضاً".

ان من يستعرض مليا المراحل السياسية التي مر بها صدام حسين في العراق ومدى التلاعب الاميركي به في دفعه لخوض حرب مدمرة ضد النظام الايراني ثم التورط في احتلال الكويت (1990) ثم هجوم التحالف الدولي عليه لإخراج قواته منها وصولاً الى احتلال العراق عام (2003) واعدام صدام حسين نفسه ليدرك حجة وجهة نظرنا هذه.

اننا نعلم علم اليقين انه لولا الموافقة الأميركية والاذعان الفرنسي لما تم عقد اتفاق الطائف (1990) حتى ولو جاء بحلة عربية، وبالتالي كيف تمّ اطلاق يد الرئيس الراحل حافظ الأسد للهيمنة على لبنان. بل انه من المثير حقاً ان نتذكر كيف عمد تحالف بوش ـ شيراك لاستصدار القرار 1559 الذي صدر في نهاية 2004 والقاضي بناء لطلب مجلس الأمن بخروج القوات السورية من لبنان، كالذي أعطى هو الذي أخذ.

لقد كان إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري (14 شباط 2005) بعدها بشهور ونهوض قوى 14 آذار هو المنعطف المصيري الذي اكره بالنظام السوري على سحب قواته من عندنا. ومن اللافت جداً وبمكان انه اثناء الاستعدادات للتحرك المناوئ لتظاهرة حزب الله في 8 آذار 2005 كانت نصيحة السفير الاميركي جيفري فيلتمان ان تحركا كهذا لن يحظى بدعم اميركي ذلك ان الوضع اللبناني لم يكن على الأجندة الاميركية. الا ان طوفان 14 آذار قلب موازين القوى وأكره الاميركي والفرنسي على التعاطي بجدية وحماس مع مطالب المتظاهرين.

وتكشف أحداث مصر الأخيرة اكثر ما تكشف، طبيعة التلاعب الاميركي بما يسمى "الربيع العربي" فسرعان ما محضت واشنطن تأييدها للمجلس العسكري هناك وتخلت عن رجلها القوي حسني مبارك، لتعود فتتقبل وصول الاسلام المعتدل صنو حزب الحرية والعدالة التركي، جماعة الاخوان المسلمين، الى السلطة ودخول الحكم الجديد في متاهة من الصعب جداً الخروج منها متماسكا معافى. ولعل الشروط التي قدمها جون كيري وزير خارجية اميركا الجديد الى الرئيس مرسي بغية الحصول عل قرض البنك الدولي (4،8 مليارات دولار) هي الدليل على هذا التلاعب المتمادي من قبل العم سام، الا وهو ضرورة التوافق مع المعارضة. وهذا مطلب دونه عقبات.

ويشكل الملف الايراني النووي إحدى الحلقات الأكثر توضيحاً لضبابية سياسة "باراك اوباما" الخارجية. ففي ظل ولاية اوباما الأولى وارضاء لمطالب الرأي العام الاميركي بضرورة عودة الجنود الاميركيين الى ديارهم من العراق وافغانستان. فقد طال الاحتلال الاميركي كثيرا للبلدين، الا ان خروج القوات الاميركية من العراق سوف يتم عبر اتفاق اميركي ـ ايراني عبر صفقة حولت العراق الى محمية إيرانية، في الوقت الذي لا يمانع فيه البيت الابيض إجراء حوار مع حركة طالبان القوية في افغانستان والتي تحظى بدعم باكستاني غير مباشر. والمثير في الصفقة الايرانية ـ الاميركية حول العراق؛ وفرض حكومة نور المالكي الايراني الولاء، ان ايران نفسها لا تتوقف عن توجيه التهديد ضد اسرائيل الربيب التاريخي لواشنطن ـ ان الصناعات الحربية الاميركية لا تجد غضاضة قط، في تنامي النفوذ الايراني في الخليج ولا تدخل طهران في شؤون البحرين، ما دام ذلك يسعّر سباق التسلح ويساهم في تلميع صورة اوباما بايجاد حل سريع لمشكلة البطالة عنده هناك.

تتخبط سياسة باراك أوباما لحد الذهول في تعاطيها مع الأزمة السورية. فاميركا هي التي ما زالت تضغط على دول مجلس التعاون بعدم تسليح المعارضة الثورية السورية، وهي التي تتناغم مع موسكو في ارسال المراقبين الدوليين والموفدين العالميين بحثاً عن حل سياسي اصبح بالمعنى الراهن مستحيلا في سوريا. واميركا هي التي تضغط على تركيا لعدم تسليم المعارضة الاسلحة المناسبة والمتطورة للدفاع عن المناطق المحررة. وتعمد واشنطن لتبرير تلكؤها وللضغط على تركيا للتلكؤ والمماطلة في هذا المجال، الى الادلاء بتصريحات مفادها ان تنظيم "النصرة" الموالي للقاعدة يشارك في القتال الدائر ضد النظام الاسدي، لا بل تضغط الولايات المتحدة على شركائها الأوروبيين في الاتجاه نفسه.

أما عندنا في لبنان، فان كل التورط العسكري الذي يغرق فيه حزب الله في سوريا، وجميع الممارسات المشبوهة للحكومة الميقاتية حيال الأزمة السورية، بل السيطرة المفضوحة لحزب الله على مجمل الوضع اللبناني وتحول لبنان الى محمية ايرانية بنكهة أسدية، فان ذلك لا يثير استهجانا مدوياً من الاميركيين ـ بل نصل الى القول ان واشنطن تؤثر الاذعان للأمر الواقع الذاهب بنا الى قعر الهاوية، والا فما هو التفسير المقنع يا ترى للنصائح الاميركية بأن استقالة الحكومة المفلسة غير ممكنة الآن وان اي حكومة جديدة ستكون على غرارها؟

أوباما في زيارة هي الأولى لدول المنطقة، حيث سارع "نتنياهو" لتشكيل حكومة مصرة على المضي قدماً في سياسة الاستيطان والتي تلمح الى امكانية توجيه ضربة عسكرية لمفاعلات ايران النووية. اما ماذا يحمل معه، وهو الذي طالما طالب بحل الدولتين، من ضمانات لاستئناف محادثات السلام. هذا ما سوف نراه في غضون ايام مقبلة معدودات.

المصدر: 
المستقبل