فلسطينيو 1948: خطة فاشلة لاجتثاث الشعب والأرض

بقلم: 

 

وُجِدت الجليل قبل النصوص القديمة وكل الكتب المقدّسة. تأخذنا القيادة عبر الطرق المتعرّجة في قرى الجليل ومدنها في رحلةٍ عبر تاريخ أرض وشعبها. وقد انفتحت عيناي على الواقع عندما زرتها أخيراً في رفقة المؤرّخ الفلسطيني جوني منصور الذي لفت انتباهي طوال رحلتنا إلى الأدلة الوافرة على ما يسمّيه هو وباحثون آخرون، الخطة الصهيونية القديمة لـ"تهويد" مختلف جوانب الحياة الفلسطينية بإزالة أكبر قدر ممكن من رموز فلسطين العربية واستبدالها بالوجه الجديد لإسرائيل وسكّانها اليهود الأوروبيين في معظمهم الذين هاجروا إليها بعد عام 1948. يقول منصور "إنها ممارسة خطرة ومدروسة جيداً". فإلى جانب طرد العرب أو حشرهم في مناطق وأحياء معيّنة، تقوم هذه الخطة على تغيير أسماء الأماكن من العربية إلى العبرية، واقتلاع أشجار الزيتون، واستبدالها بأنواع الأشجار الأضخم والأكثر اخضراراً التي "تحاكي أجواء الوطن الأم بالنسبة إلى الأعداد الكبيرة من اليهود الأوروبيين الذين هاجروا إلى إسرائيل". ويوضح منصور ان هذا كله بدأ بعد إنشاء دولة إسرائيل عام 1948 وهو يستمرّ حتى يومنا هذا.

والنتيجة هي خيانة للطبيعة في ذاتها. إنها تولّد إرباكاً من حيث ما كان موجوداً من قبل، وما اقتُلِع من المكان، وما زُرِع بدلاً منه. لا شك في أن الطبيعة أصبحت أكثر غنى واخضراراً، لكن هويّتها الحقيقية ضاعت في السياسة اذ يتنازع الافرقاء على من كان هنا أولاً ومن هم السكّان الأصليون الحقيقيون. يعلّمنا التاريخ الحقيقة الآتية: لا يهم من كان هنا أولاً أو من غزا الأرض ومتى. الأهم، في الجانب الأكثر براغماتية، هو الحاضر ومن ينتمي فعلاً إلى الأرض ومن هو متجذّر فيها في مقابل من زُرِع فيها. في حين أن التاريخ يُعيد نفسه، يعلّمنا أيضاً أن الأمور تتغيّر باستمرار، ولا شيء يبقى هو نفسه إلى الأبد.

يشكّل العرب اليوم نحو خمسين في المئة من السكّان في شمال إسرائيل. كما أنهم يمثّلون عشرين في المئة من مجموع السكان. تشير كل البحوث إلى أن أنهم يتّجهون نحو التساوي في العدد مع اليهود، وقد يتفوّقون عليهم في المستقبل، الأمر الذي يسبّب قلقاً كبيراً لإسرائيل. المستوطنات في الجليل واقعٌ، لكنها لا تتمتّع بالنفوذ نفسه الذي لتلك القائمة في الضفة الغربية أو القدس. فهذه المستوطنات محاطة بقرى ومدن عربية ناجحة ومزدهرة لا تزال تنمو بوتيرة مطّردة. ينشط عدد كبير من الفلسطينيين في بناء المنازل في قراهم وبلداتهم، حتى إن بعضهم يختار العيش هناك ويتنقل إلى المدينة ذهاباً وإياباً بداعي العمل. من جهة أخرى، لم يعد لدى إسرائيل عدد كافٍ من المستوطنين كي تُسكنهم في الجليل. تكثر اللافتات التي تشير إلى مختلف أنواع الحسومات والعروض، وتكاد تتوسّل الناس لشراء منازل في المستوطنات الجديدة. من الواضح أن إسرائيل بلغت الحد الأقصى من حيث اعداد اليهود الذين تستطيع إغراءهم للعودة إلى إسرائيل والسكن في هذه المستوطنات. والجليل خير مثال على ذلك: أراضٍ شاسعة تكفي جميع الفلسطينيين في مختلف أنحاء العالم، لكنها خالية في الوقت الحالي بانتظار تسوية ما، وقد يطول الانتظار...

علمّني عرب 1948 درساً: أذعن أسلافهم للسيطرة الإسرائيلية على أرضهم. أصبحوا مواطنين إسرائيليين ليس بخيار منهم، في حين تحوّل معظم الفلسطينيين الآخرين لاجئين في البلدان المجاورة. ناضلوا من طريق البقاء في أرضهم وحمايتها. قاوموا من خلال الحفاظ على لغتهم العربية وهويتهم الفلسطينية على رغم كل المحاولات لطمسهما. إنهم يتسلّحون بصبرهم وعزمهم.

لعلّ وجودهم في الداخل منحهم الصفاء الذهني اللازم للتفكير والتصرّف بطريقة مختلفة. لا يقلقون في شأن "العودة" لأنهم لم يغادروا أرضهم قط. والجنسية الإسرائيلية هي ورقة رابحة في أيديهم، لأنها تتيح لهم العمل من داخل المنظومة، ويكفي أنهم موجودون وأنهم ينمون ويزدادون عدداً، بما يجعلهم يتحوّلون تهديداً لا يستهان به إلى جانب التهديدات الكثيرة التي تطرحها المقاومة العسكرية أو السياسية.

لا تفرض إسرائيل الخدمة العسكرية الإلزامية على سكّانها العرب، وهذا أكبر مؤشّر لعنصرية الدولة الإسرائيلية حيالهم. كما أن معظم العرب لا يخدمون في الجيش الإسرائيلي، وهذا مؤشّر واضح لكون الغالبية الكبرى من العرب في إسرائيل لم تخسر هويتها الفلسطينية الحقيقية. حتى أنني قد أقول إنهم لا يزالون الأكثر أصالة وتركيزاً على الهدف بين جميع الفلسطينيين، لأنهم مكثوا في أرضهم فيما يخوض الآخرون نضالاً للعودة منذ أكثر من ستين عاماً.

في الظاهر، أو بالنسبة إلى الناظر من الخارج، قد تبدو الحياة كأنها تسير كالمعتاد، ولكن لا يزال العرب الإسرائيليون، في أعماقهم، يرون أن إسرائيل هي المحتل، ولا تزال إسرائيل تعاملهم على أنهم خاضعون للاحتلال.

 

 

المصدر: 
النهار