الاستيطان ينهي «حل الدولتين»

بقلم: 

 

أصبحت السيطرة على الأرض جزءاً مهماً في رسم حدود الدولة العبرية، وتتم بموجب استراتيجية مخطط لها. ويعتبر الاستيطان هو الأساس لرسم هذه الحدود. في حزيران 1967 هاجمت إسرائيل الدول العربية في حرب خاطفة، قصيرة الأجل، أسفرت عن احتلال كامل للضفة الغربية وقطاع غزة وأجزاء أخرى من دول عربية، وعلى الرغم من أن تعليل الحكومة الصهيونية لشن هذه الحرب كان «لأسباب أمنية»، إلا ان أهدافهم كانت فتح آفاق جديدة أمام الاستيطان. وهكذا حتى بداية الثمانينيات أقيمت المستوطنات على الأراضي التي صودرت لاحتياجات «أمنية»، والتي كانت معسكرات للجيش الأردني. وقد ارتكزت «قانونية» إقامة هذه المستوطنات على أساس اعتبارها كيانا موقتا ذا قيمة أمنية (مستوطنات الغور) ومنطقة «غوش عتصيون»، بالإضافة إلى بضع مستوطنات أقيمت في مناطق أخرى بالضفة الغربية وقطاع غزه. أما بالنسبة إلى القدس، فإن هذا الوضع اختلف كلياً، فبعد الاحتلال مباشرة، وعقب صدور قانون توسيع حدود بلدية القدس في 28/6/1967، وفرض القانون الإسرائيلي عليها، بدأت سياسة المصادرات للمصلحة العامة باستخدام قانون الأراضي (استملاك للمصلحة العامة).

مشروع ألون

بدأت الجرافات الإسرائيلية، حتى قبل وقف إطلاق النار عام 1967، بتهجير سكان القرى العربية (يالو وعمواس وبيت نوبا) وتدميرها، بالإضافة إلى تدمير جزء من مدينة قلقيلية. وتمت السيطرة على 58كم2 من الأراضي الحرام، كما تمت إقامة مستوطنات جديدة على هذه الأراضي واستغلالها للزراعة، وفي نفس الوقت هدم حي الشرف في مدينة القدس لإقامة الحي اليهودي. وعلى ضوء السياسة الإسرائيلية غير الواضحة آنذاك، والتي كانت ترغب بإجراء تعديل حدودي مع ضم جزء من الأراضي إلى إسرائيل (القدس، اللطرون، ومنطقة غوش عتصيون) مع منطقة أمنية في غور الأردن، فقد تركز الاستيطان في هذه المناطق. أما المناطق الأخرى، فكان يفترض أن تتم إعادتها إلى الأردن (مشروع الون)، لكن هذه السياسية تطورت مع تطور الوضع السياسي والرؤية الصهيونية في سياق تنفيذ مشروع الاستيطان.
ويعتبر مشروع ألون الخطة الرسمية لحزب العمل، ويقضي بتنفيذ مخططات استيطانية استراتيجية وسياسية على امتداد الأغوار والسفوح الشرقية لمرتفعات الضفة الغربية، وحاول المشروع تجنب المناطق المأهولة (الاستيلاء على أكبر مساحة من الأرض مع أقل عدد من السكان) يضاف إلى ذلك الوصول إلى تسوية إقليمية مع الأردن تعتمد على حدود سياسية، لذا اقترح ضم أراض بعمق 10 ـ 15 كم على طول وادي الأردن، والبحر الميت، ومنطقة «غوش عتصيون»، ومنطقة اللطرون.
لكن هذه السياسة تطورت مع قدوم حكومة الليكود عام 1977 التي وضعت خططا جديدة في إطار سياستها القاضية بتوسيع الاستيطان وعدم إقامة دولة فلسطينية وتغيير الأسماء وعبرنتها وإقامة المستوطنات حول المدن الفلسطينية، تنفيذاً لهذه السياسة الرامية إلى فرض وقائع على الأرض تحول دون إقامة دولة فلسطينية ذات تواصل جغرافي. كما جرى التوسع الاستيطاني بشكل كبير مستنداً على أفكار التسوية النهائية وتحديد حدود إسرائيل بحسب ما تراه الحكومات المتعاقبة من خلال الوصل الجغرافي بين المستوطنات وتشكيل الكتل الاستيطانية. فقد ارتفع عدد المستوطنين في عام 1998 إلى 170 ألف مستوطن، ليصل في عام 2012 إلى 360 ألف مستوطن في الضفة الغربية (بدون القدس). ومنذ التوقيع على اتفاق «واي ريفر» عام 1998 وقبله كانت الجرافات الإسرائيلية تجرف الأرض الفلسطينية من أجل إقامة مستوطنات جديدة، أو إعلان المصادقة على المخططات الهيكلية للمستوطنات القائمة وتوسيع القائم منها.

الاستيطان ورسم الحدود

استغلت اسرائيل الاتفاقيات الموقعة وخصصت التمويل لهذا التوسع ورسم حدود جديدة للدولة العبرية. فما أن عاد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو من واشنطن بعد توقيع اتفاق «واي ريفر»، حتى بدأت الأوامر العسكرية التي تعلن عن مصادرة الأراضي، كما بدأ غلاة المستوطنين بوضع البؤر الاستيطانية على رؤوس الجبال. وقد دعا عضو الكنيست (بني إيلون) من حركة (موليدت) المستوطنين إلى احتلال أكبر عدد ممكن من التلال المجاورة للمستوطنات ودعمه أريئيل شارون، وقال «لا يوجد هنالك مستوطنات محاطة فلتتحرك كل مستوطنة ولتستولي على المزيد من التلال، وكل ما نستولي عليه يكون بأيدينا». ومع أن شارون كان وزيرا للخارجية حينذاك، إلا انه صرح بعد العودة من «واي ريفر» أن المعركة النهائية فتحت على مصراعيها، وحان وقت حسمها بالأفعال، وبمزيد من مصادرة الأراضي والاستيطان والإكثار من الطرق الالتفافية. ودعا شارون الإسرائيليين للركض باتجاه التلال وصعود الجبال، وإقامة الممكن من المستوطنات الجديدة في كل مكان.
وهكذا أقيمت 116 بؤرة استيطانية تطبيقاً للمخططات التي طرحها شارون نفسه عندما كان وزيراً للإسكان عام 1990، والتي طرح فيها مشروعه (النجوم السبعة) الذي يقضي بإقامة مجموعة من المستوطنات داخل الخط الأخضر، وفوقه، وبعمق الأراضي المحتلة، راسمة الحدود المستقبلية للدولة الفلسطينية. وفي عام 2001 اتخذ قرار إقامة جدار الفصل تجسيداً لهذه الرؤية، إذ أقيم الجدار داخل الضفة الغربية بعمق يتراوح بين (500 - 900)، وفي المناطق العربية المأهولة لفصلها عن المناطق الإسرائيلية التي أقيمت فوق الخط الأخضر. كما أن الخرائط التي قدمت في كامب ديفيد وطابا، والتي تضم الكتل الاستيطانية التي سوف تضم إلى إسرائيل أصبحت أمراً واقعاً لخطة الفصل الحالية.
وقبل استكمال إخلاء المستوطنين من قطاع غزة وشمال الضفة في آب 2005، سارعت الحكومة الى تنفيذ القسم الثاني من خطة فك الارتباط لرئيسها حينذاك اريئيل شارون، وهو تعزيز السيطرة الإسرائيلية في الكتل الاستيطانية بالضفة الغربية. وفي تزامن شبه كامل مع الاخلاء من قطاع غزة، شّرع بتوزيع أوامر المصادرة للأراضي الفلسطينية في المناطق المرشحة لبناء جدار الفصل. وتمت المصادقة على إقامة محطة شرطة في المنطقة المسماة «
E1» بين مستوطنة «معالية ادوميم» والقدس، مما يعني أن محاولة اقرار حقائق على الأرض قبل مفاوضات المرحلة النهائية قد بدأت. وقد أكد رئيس الوزراء شارون حينها ذلك بقوله إن «الكتل الاستيطانية في الضفة الغربية، ستبقى في أيدي إسرائيل وتحاط بجدار، وهذا الموقف أوضحناه للأميركيين، وهذا موقفنا، حتى لو أعربوا هم عن التحفظ».
أدت جميع هذه الإجراءات على مستوى توسيع الاستيطان وشبكة البنية التحتية المرتبطة به، إلى منع إيجاد تواصل جغرافي بين المدن والبلدات والقرى الفلسطينية، بعدما قطعته الكتل الاستيطانية والشوارع الالتفافية، وجعلت إقامة دولة فلسطينية أمراً مستحيلاً ضمن هذه الرؤية، بل أكثر من ذلك فإن رسم الحدود من قبل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة والاستيطان المركّز في جميع أنحاء الضفة الغربية أديا إلى إعادة الروح إلى أفكار ومشاريع سبق طرحها منذ زمن طويل، لكنها اليوم تكتسب بريقا جديدا على إيقاع تقدم المشروع الصهيوني الاستيطاني على حساب ما يعرف باسم «حل الدولتين»، وهي مشاريع تتراوح بين دولة «الكانتونات» الفلسطينية ذات الحدود الموقتة، وفكرة الوطن البديل التي تطرح من حين إلى آخر من قبل المسؤولين الإسرائيليين.
في المحصلة، فإن إسرائيل من خلال توسيع وتسريع عمليات الاستيطان في الضفة الغربية والقدس الشرقية توجه رسالة واضحة مفادها أن التغييرات على أرض الواقع تؤكد أن «دولة فلسطين هي في الأردن وليست في الضفة الغربية». ويعني ذلك أن إسرائيل تضع اللمسات النهائية للقضاء على إمكانية إقامة دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي المحتلة منذ العام 1967، وتدفع من خلال استيطانها على الأرض لإقامة دولة فلسطين شرق نهر الأردن، بحيث تكون التجمعات الفلسطينية المتبقية في الضفة الغربية تابعة لتلك الدولة. ولعل الحديث عن الكونفدرالية مع الأردن، وأن «الأردن هي فلسطين»، كما تروج له أوساط سياسية إسرائيلية، لا يبعد كثيرا عما يحدث من رسم سياسات على أرض الواقع بقوة الاستيطان والتهويد والتطهير العرقي في الضفة الغربية.

* مدير دائرة الخرائط ونظم المعلومات الجغرافية ـ جمعية الدراسات العربية ـ القدس.

المصدر: 
السفير