جــامــعــة بـيـــرزيـــت ... المكانة الأكاديمية وثقافة الاحتجاج

بقلم: 

أن يخلق احتجاج طلاب جامعة بيرزيت على زيارة القنصل البريطاني للجامعة نقاشاً حول طرق وسبل الاحتجاج السلمي، فهذا أمر يشير إلى حيوية فكرية ونقدية تسعى لقراءة المشهد السياسي بأبعاد مختلفة. أن تختلف الآراء حول مفهوم وأدوات الاحتجاج فهذا أمر يمكن فهمه في سياق الثقافة الوطنية المتنورة والباحثة عن التجدد من خلال النقد، ولكن أن يتطور النقاش إلى إدانة ضمنية لجامعة بيرزيت ورسالتها الأكاديمية وطلاب الجامعة ففيه ابتعادٌ عن جوهر المسألة، لاسيما أن النقاش الذي أدان الاحتجاج الطلابي اعتمد على بعض الروايات الإعلامية الأولية والتي هولت من حالة الاحتجاج الطلابي بوصفه اعتداء على القنصل البريطاني وضخمت من طبيعة الحدث، ما دفع تلقائياً إلى اتخاذ موقف من الحالة الطلابية الاحتجاجية ومكانة الجامعة ورسالتها الأكاديمية، تجاوز حالة النقد إلى الإدانة.
ليس المقصود هنا الدفاع عن جامعة بيرزيت ومكانتها الثقافية والوطنية أو حتى تبرير الاحتجاج الطلابي بقدر التوقف عند طبيعة النقاش الذي يدور حول هذه المسألة على صفحات الجرائد ووسائل الإعلام الاجتماعي. فقضية الخلط بين مكانة الجامعة ودورها الأكاديمي من جهة ومفهوم الاحتجاج من جهة أخرى باعتبار ان الحالتين وجهان لعملة واحدة يتجاوز النقد الموضوعي ويمس كفاءات أكاديمية فلسطينية في مختلف المجالات العلمية، ويختصر جامعة بيرزيت في موقف محدد فقط لأن طريقة احتجاج طلابي لم ترق لتأويلات معرفية معينة فاعتبرت جامعة بيرزيت أنها لم تعد "منارة" أو إلى اعتبار أن طبيعة الاحتجاج مثلت أسلوباً "يتكئ على الجهل وسوء التصرف وعدم المسؤولية" ظهر في "مطاردة القنصل البريطاني في أروقة جامعة فلسطينية". وهي بالمناسبة مبالغة أدبية تتجاوز دقة ما حدث في الجامعة.
هنا يمكن القول إن الحق في الاحتجاج مسألة أخلاقية وهي طبيعية في سياق الليبرالية والتعددية الفكرية الممارسة في جامعة بيرزيت، وليس من الطبيعي حصر مسألة الاحتجاج في نمط أو سياق معين باعتبار أن للاحتجاج مفهوما محددا دونه يصبح الاحتجاج همجية أو إقصائية، وعليه يصبح وصف ما أقدم عليه الطلاب في جامعة بيرزيت هو ضد الليبرالية وضد الحوار والنقاش الموضوعي، أو أنه تصرف انفعالي يندرج في سياق سيادة "الخطاب البلاغي المؤثر" و "انعدام الثقافة والمسؤولية".
هذا المنطق الاجتزائي في النقد خلط القضايا ببعضها باندفاع انفعالي، حكم على الحدث في سياق التعميم القاسي.
ليس المطلوب أن نكون متشابهين تماماً في التأويل أو الرؤية النقدية، فمساحة الاختلاف في التحليل كفيلة بخلق مناخ صحي لنقاش يتناول الأبعاد والمسببات دون الاكتفاء بنقد الأدوات بمعزل عن السياق العام، فهذا يخلق حالة مشوهة من الفهم لطبيعة الاحتجاج، لاسيما عندما يتم ربط احتجاج الطلاب بمكانة جامعة بيرزيت وسمعتها الأكاديمية، وهو بتقديري ما حوّل النقد الموضوعي إلى لوائح اتهامية تجاوزت في سياقها التحليلي النقاش المرتكز على قضايا الهم السياسي والاجتماعي.
في نفس السياق يمكن اعتبار ما حدث في جامعة بيرزيت عنواناً لحالة وطنية وثقافة احتجاجية متجددة بنبض شبابي منسجم مع حركات الاحتجاج الفلسطينية والمقاومة الشعبية السلمية، ولا يمكن فصل أدوات الاحتجاج في "باب الشمس" أو الكرامة" او "حب في زمن الأبارتهيد" بشكل انتقائي عن حركات الاحتجاج الطلابية والشعبية حول العالم، وإن تباينت الأدوات التعبيرية وطبيعة الاحتجاج. ففي التجربة التاريخية والمعاصرة الكثير من الأمثلة التي لم يتم نعتها بالهمجية أو الإقصائية، بسبب تباينها في الرؤية أو بسبب تفاوت أدوات الاحتجاج، بل على العكس كانت دافعاً لقراءة متأنية للمسببات والمفردات السياسية، وهو ما مكن من تطوير خطاب احتجاجي انساني يتبنى قضايا العدالة الاجتماعية والوطنية، لا خطاب تورط في أفخاخ الاتهامية أو التعميمات الاستعلائية التي ركزت فقط على أداة الاحتجاج.
من المؤسف أن يكون هناك على سبيل المثال - في سياق احتجاج طلاب جامعة بيرزيت على زيارة القنصل البريطاني العام - تساؤلٌ حول دور بريطانيا التاريخي في إقامة وطن قومي لليهود، وهو ما جاء في نقد إحدى اللافتات التي حملها الطلاب "أنا لاجئ بسبب بلفور" وذلك بالبحث عن مبرر سياسي يدفع في اتجاه أن الوعد البريطاني لم يؤد إلى إقامة وطن بل هو" دهاء الصهيونية في استغلال ظروف ومعطيات وضع دولي"، من المؤسف في ظل هذا التساؤل أن يتم إعفاء المستعمر ضمناً من دوره الأخلاقي والتاريخي في سياق نقد احتجاج طلابي في جامعة بيرزيت. فمن البديهي القول إن السير فنست فين لم يكن شخصياً مستهدفاً من قبل طلاب جامعة بيرزيت، بل كانت المعارضة للسياسة التي يمثلها السير فين، وباعتقادي أن القنصل البريطاني العام يعي هذا تماماً، ويعي أن الحراك الطلابي ضد زيارته كان احتجاجاً على سياسة بريطانيا تجاه القضية الفلسطينية، وليس احتجاجاً على جنسيته أو ثقافته، فجامعة بيرزيت تستقبل بشكل شبه يومي الكثير من المثقفين والشخصيات الأكاديمية الأوروبية والأميركية دون أن يكون هناك احتجاج طلابي.
هذا ربما يذكرنا بموقف الصحافي البريطاني روبرت فسك إبان الحرب على أفغانستان في عام 2001 وتعرضه لاعتداء جسدي بالضرب من قبل مجموعة من الأفغان، أثناء تغطيته للحرب، لم يقل فسك في افتتاحية الاندبدنت بعد ذلك والتي تصدَّرت صورته بضمادات طبية تلف رأسه أن المعتدين عليه كانوا همجاً أو إقصائيين، بل ربط بين الاعتداء الجسدي عليه والاحتقان السياسي بسبب سياسة بريطانيا في غزو أفغانستان، ذاكراً أن الاعتداء لم يكن ضد روبرت فسك شخصياً.
هذه التجربة الانسانية التي مضى عليها أكثر من عشر سنوات، تدفعنا للقول إن الاحتجاج الطلابي على زيارة القنصل البريطاني - والذي لم يحمل اعتداء جسدياً مباشراً عليه - كان محصلة مفهوم وطني ما زال يؤمن بمسؤولية بريطانيا التاريخية عما حل في فلسطين. وبالتالي جاء الاحتجاج الطلابي منسجماً مع حركة التاريخ الوطني الفلسطيني، وحمل في طياته ملامح حركة طلابية تتسم بالتوقد والانفعالية الوطنية، إنها نفس الحركة الطلابية التي تخرج في فعاليات شبه يومية من أجل قضية الأسرى، ونفس الحركة الطلابية التي تتصدر المواجهات مع قوات الاحتلال عند سجن عوفر، ونفس الحركة الطلابية التي قدمت جرحى ومصابين ومعتقلين في الأحداث الأخيرة، وهي نفس الحركة الطلابية التي تتواصل مع حركات طلابية في جامعات أخرى في العالم من أجل تعزيز مبدأ المقاطعة الأكاديمية لإسرائيل، وتعزيز التضامن الطلابي الدولي مع الطلاب الفلسطينيين في فلسطين، هذه الحركة الطلابية لا يمكن النظر إليها من خلال "انعدام الثقافة والمسؤولية" بقدر ما يمكن فهم ودراسة تكونيها وفعالياتها المتعددة في إطار ثقافة وطنية وفكر سياسي متجدد.
إن الحساسية المفرطة تجاه أي حراك احتجاجي فلسطيني لاسيما ضد سياسات استعمارية دولية، ليس هو البديل الثقافي المطلوب بقدر ما يساهم بشكل غير مباشر في حالة الاحتقان الشعبي، ولا يمكن إقصاء رسالة طلبة جامعة بيرزيت عن مفهوم الليبرالية والتعددية، في إطارها العام وإن تباينت الرؤى في أدوات الاحتجاج المستخدمة، وإن قبلنا بعضها أو تحفظنا على بعضها، وإن اتفقنا او اختلفنا، فظاهرة بيرزيت، ظاهرة فلسطينية تستحق الاهتمام بكافة أبعادها الأكاديمية والطلابية، وبالتالي لا يمكن قياس الاحتجاج الطلابي بأنه يؤثر على مكانة الجامعة أو علاقاتها الأكاديمية أو أنه لن يشجع "زائراً سياسياً أجنبياً له رأي يخالف الاتجاه العام الفلسطيني" على إلقاء محاضرة في بيرزيت، بل على العكس ما حدث في جامعة بيرزيت كان صوتاً طلابياً وطنياً انطلق من فهم وطني عفوي لطبيعة المواقف السياسية تجاه القضية الفلسطينية، ربما اتسم ببعض الحدة، ولكنها ليست الحدة التي تجعل منه صوتاً نافراً أو قاصراً عن فهم الحالة السياسية العامة والتي تتعلق بفلسطين. أما فيما يتعلق بسمعة الجامعة الأكاديمية، فليس هناك حاجة للقول إن طرق قياس المكانة والسمعة الأكاديمية أكثر تعددية وتتم عبر نشاطات المؤسسة وفعالياتها ودورها الثقافي والمجتمعي في فلسطين والمنطقة، لا من خلال احتجاجات طلابية تأتي في سياق الحالة السياسية في فلسطين.

 

المصدر: 
الأيام