الأصولية هي المنبع الأساسي لإنتاج العنف

 

كنا نقول بأن الإنسان حقق تقدماً مذهلاً في العلوم والتقنيات أسهم في تحسين مستوى العيش، لا يوازيه تقدمٌ في بناء علاقات سلمية مدنية تقلل من استخدام العنف بين البشر. ولكن ما حصل هو عكس ما كان يُنتظر. فالعنف لم يتراجع، بل هو يتنامى ويتصاعد، سواء مع التطور العلمي الذي أتاح إنتاج أسلحة الدمار الشامل، أو مع الدخول في عصر الأدوات والمعلومات الفائقة التي تسهل انتشار الإرهاب على المستوى العالمي.

وإذا كان للعنف أساسه في الطبع الحيواني، إذ هو مبرمج في "الجينات البيولوجية"، فهناك عنف رمزي مصدره "الشيفرات الثقافية"، هو الذي يفسر كيف أن الإنسان هو أشرس من الحيوان بما لا يُقاس، في ما يمارسه من العنف، ذبحاً وحرقاً وبتراً، أو رجماً وسحلاً وسلخاً.

والشواهد الحديثة والمعاصرة بليغة في هذا الخصوص، من إلقاء قنبلة نووية على هيروشيما في اليابان إلى تفجيرات أيلول في نيويورك، ومن معسكرات الاعتقال في روسيا الاشتراكية، إلى بربرية الثورة الثقافية في الصين، ومن أفران الغاز في ألمانيا النازية إلى احتلال فلسطين وتشريد شعبها من دياره.

في العالم العربي تبدو الأمثلة فاضحة، من حيث استخدام العنف سواء في أشكاله القديمة أو الحديثة؛ قديماً من ذبح عمرو بن ود العامري باسم الله إلى ذبح الحسين بن علي باسم الملك، ومن إلقاء ابن المقفع في تنور مسجور إلى صلب الحلاج على أحد أبواب بغداد، بعد اتهامهما بالارتداد والزندقة. ولا ننسى حرب صفين بين المسلمين وما سفك فيها من دماء يجعلنا نترحم على حروب الجاهليين.

حديثاً، يبدو العنف أكثر فظاعة، كما تشهد نماذجه، من تذويب فرج الله الحلو (قائد يساري لبناني) بالأسيد إلى حرق الناس بالقنابل الكيماوية في حلبجة بكردستان، ومن القتل على الهوية في لبنان إلى المجازر العرقية في دارفور بالسودان، ومن جحيم المنظمات الجهادية الإرهابية في الجزائر إلى مسلخ الأنظمة الشمولية في غير بلد عربي.

كيف نفسّر هذا العنف الفائق الذي لا سابق له في العصور الحديثة، والذي فاق، كمّاً ونوعاً، ما مورس من عنف خلال حروب العرب مع إسرائيل؟

إنه لمن التبسيط والخداع أن نرمي المسؤولية على حفنة من الأشخاص تحكموا برقاب العباد ومصائر البلاد. لأن المسؤولية يحملها الجميع. لا شكّ بأن الذين تسلموا مقاليد الأمور يحملون مسؤولية جسيمة ومضاعفة، بقدر ما خانوا الأمانة وأخفقوا في إدارة الدفّة، فكيف بمن يقتل شعبه ويخرّب بلده.

وهكذا فالمسؤولية تتعدى المعترك السياسي لتطال جبهة الثقافة: نمط الوعي، منظومة الإدراك، طريقة التفكير، سياسة الهوية، النظرة الى الآخر... فنحن صنيعة أفكارنا وضحاياها في الوقت نفسه.

فإلى هذا الجانب، بمحجوباته وعتماته وشيفراته وأفخاخه، يجدر أن نتوجّه، إذ هو بمثابة الصندوق الأسود الذي ينبغي فتحه، من أجل تشخيص العلّة، وإلا نكون كمن يعالج الأزمة بالأدوات التي تعيد إنتاجها. أتوقف عند آفات خمس هي الخزان الذي يوّلد هذا العنف الأعمى والفاحش الذي يفاجئنا من حيث لا نحتسب.

[ 1ـ الحقد الطائفي

لا مبالغة في القول بأن الحقد، الذي هو منبع للعنف، يتحكم بالعلاقات بين الطوائف في البلدان العربية ذات التركيب المتعدد. وإذا كان الحقد يوصف بأنه دفين أو مبطّن، كما هي الحال في أوقات السلم، فإنه ينفجر عنفاً، كما يتجسد في الحروب الأهلية التي هي مجرد هدن بين فتنتين. وهذه حالنا في بلد كلبنان، لم تتوقف فيه عوامل الحرب: ننام على هدنة ونفيق على فتنة.

لا شكّ أنه بعد نشوء الدول الحديثة تشكّلت دساتير وخطابات جديدة حول المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات، أو حول التسامح والتقارب والعيش المشترك. ولكن القوانين والمفاهيم الحديثة لم تخرق النفوس المريضة ولا فككت النصوص الملغمة، بل بقيت قشرة على سطح الوعي تخفي ما تختزنه الذاكرة من الكره والبغض والعداء تجاه المختلف، وهي ذاكرة قصيّة عمل على تشكيلها وتغديتها وشحنها تاريخ طويل ومرير من الصراعات والحروب، السياسية والعقائدية، التي ترجمت الى شرخ تاريخي وانشقاق مجتمعي، بين المسلمين، بحيث بات لكل طائفة عالمها الثقافي الخاص الذي يعزلها عن سواها، بإرثه ورموزه وتقاليده...

وهكذا لم تنجح اللغة الحديثة في إعادة بناء المجتمعات، على نحو يتيح للجماعات الطائفية أن تجري تحويلات بنيوية على هويتها، وبصورة تمكنها من ممارسة خصوصيتها، بصورة مدنية عابرة للأطر الأهلية، في ظل مشترك وطني جامع. فكان أن تغلبت الهويات الفرعية لهذه الطائفة أو ذلك المذهب، على الولاء للدولة والوطن والمجتمع.

ولم تعمل الطبقة السياسية التي تسلمت مقاليد الأمور، على معالجة هذه الآفة، لأن الهاجس عند أهلها، لم يكن العمل على بناء ثقافة وطنية جامعة، بل الوصول الى السلطة والبقاء فيها. من هنا لعبوا على الورقة الطائفية، من أجل تثبيت زعاماتهم، بقدر ما أسهموا في تغذية المخاوف المتبادلة بين الطوائف والجماعات. هذا ما حصل في سوريا ولبنان، حيث تراجع المكتسب الديموقراطي، عما كان عليه أيام الاستعمار أو بُعيد نيل الاستقلال.

وكانت النتيجة أن المواطنة بقيت مجرد شعار فارغ ملأته الذاكرة الموتورة، مما جعل العلاقات بين الجماعات تترجح بين عقدة الاضطهاد والظلم لدى هذه الطائفة وبين عقلية الهيمنة والإقصاء لدى الطائفة المنافسة. بالطبع قد تنقلب الأدوار، فيتحول المظلوم أو المقهور الى قاهر ظالم. ولكن الذهنية بقيت هي نفسها والمعاملة هي ذاتها، من حيث منطق النبذ واستراتيجية الرفض وأسلوب الإقصاء أو الاستئصال، أي كل ما يوّلد العنف الذي يحوّل ساحات العراق ومدن سوريا الى بحور من الدماء.

[2ـ المعتقد الاصطفائي

الأصولية هي المنبع الأساسي لإنتاج العنف ونشره. وهي تعني الإيمان بوجود أصل نقي، منزه، ثابت، (مبدأ أو عنصر أو نص أو حدث أو عصر أو شخص) يشكل المرجع الأوحد والنموذج الأكمل، بقدر ما يجسد الحقيقة الأولى والأخيرة التي ينبغي البحث عنها ومعرفتها أو التطابق معها والعمل بها.

ولا تقتصر الأصولية على الديانات، كما هو حاصل اليوم بسبب ازدهار الأصولية الإسلامية بتياراتها وأحزابها السياسية ومنظماتها الجهادية، وإنما نجدها لدى الأيديولوجيات والأحزاب العلمانية، القومية واليسارية، التي هي أشبه بديانات حديثة. وهكذا قد تكون الأصولية عرقية كما تجسدت في النظام النازي أو طبقية كما طبقت في العهد الستاليني. ولكن، وأياً كان الشعار (العنصر الآري أو المجتمع الاشتراكي أو الحاكمية الإلهية والحكومة الإسلامية...) فإن المشاريع الأصولية تشكل نمطاً وجودياً من التفكير والتنظيم أو المسلك والعمل من أبرز سماته:

ـ عقل أحادي ، دغمائي، مغلق، يدعي أصحابه امتلاك الحقيقة المطلقة بيقين قاطع هو الذي يولد القطعان والتكتلات البشرية العمياء.

ـ خرافة التطابق مع الأصل لصنع هويات ناجزة، مكتملة، تسبق أصحابها، وتحشرهم تحت اسم واحد أو في خانة وحيدة، لكي تمارس بصورة عنصرية، عدائية، خانقة، بقدر ما تتحكم فيها عقدة التضاد مع الغير وأوهام المساوة التامة مع الذات.

ـ احتكار المصداقية والمشروعية، لممارسة الوصاية على الناس بالتشبيح أو التزوير أو القوة.

ـ منزع مثالي طوباوي يتجسد في طلب الحلول القصوى والنهائية تحت خانة الواحد والحتمي والكامل والفردوسي.

ـ مشروع شامل يفكر أصحابه بعقلية المهدي المنتظر، بقدر ما يدعون امتلاك الأجوبة الشافية والحلول النهائية على مختلف الأسئلة والمشكلات، التي تعاني منها المجتمعات، لإنقاذ الأمة والبشرية جمعاء.

استراتيجية الرفض والإقصاء أو الاستئصال لكل مخالف أو معارض، واستخدام العنف، بمختلف أشكاله الرمزية والمادية، لتحقيق الأهداف والبرامج.

ولا شك أن الأصولية تبلغ ذروتها في المنزع الاصطفائي الذين يوهم أصحابه بأنهم يحتكرون وحدهم، من دون سواهم، مفاتيح الإيمان والاستقامة والهداية، لأن الله قد اختارهم ليكونوا شعبه، أو اصطفاهم ليختم بهم رسائله الى العالم، كما هي الحال في الأصوليات الدينية الإسلامية، حيث كل طائفة تعتقد أنها الفرقة الناجية دون سواها، لكونها الناطقة باسم الله والملتزمة بشرعه أو السائرة على صراطه المستقيم.

هذا المعتقد الاصطفائي النرجسي قد ورثه المسلمون عن اليهودية التي هي النسخة الأولى من الديانة التوحيدية. ولكنهم زادوا العيار لكي يزداد منسوب العنف، كما تمارسه المنظمات الجهادية، بتصنيفاتها العنصرية ودعواتها المستحيلة واستراتيجاتها القاتلة.

وهكذا تشكل الأصولية الاصطفائية، بأحزابها السلفية ومنظماتها الجهادية ونماذجها الإرهابية، "الجرثومة الفتاكة" التي تحرك الفتن وتشعل الحروب الأهلية، بين المسلمين، لكي تمزق نسيج المجتمعات وتضرب وحدة الأوطان، ولكي تنشر الرعب وتزرع الخراب حيث أمكنها ذلك على المسرح العالمي.

والأصوليات، بمختلف عقائدها وشعاراتها، وإن تعارضت، فإن الواحدة منها تستدعي الأخرى وتعمل على تسويغها وتغذيتها، لأن التطرف يستدعي التطرف والعنف يجرّ العنف.

من هنا فإن الأصوليات المتناقضة تتساند وتتواطأ على صناعة الخراب. والشاهد البليغ أن الأصولية الإسلامية التي انتشرت في أوروبا ولدّت نقيضها، إذ أثارت المخاوف لدى المسيحي الغربي على هويته وثقافته. هذا ما يفسر المجزرة الرهيبة التي نفذها بحق مواطنيه السفاح النروجي أندرس بريفك الذي قتل بدم بارد وعقل فاشي عشرات الأشخاص الذين لا ذنب لهم ولا جريرة، فقط لكي يعبر عن رأيه ومخاوفه أو لكي يحذّر من لا يعنيهم الأمر على هذا الشكل البربري.

[ 3 ـ الفكر الفاشي

ما نجحت فيه الأصوليات، على اختلافها أو تعارضها، هو ترجمة مشاريعها في بناء أنظمة شمولية عانت البشرية من ويلاتها وكوارثها مع النازية والستالينية والماوية ونظرائها، وكما تعاني الآن من مجازرها وفظائعها مع السلفية الإسلامية الجهادية.

والنظام الشمولي يبنى على جملة ركائز يدعم بعضها بعضاً:

1 - جذر أو راسب ديني يقضي بخلع الطابع القدسي على الأقوال والأعمال، كما يقضي بتأليه القادة والرؤساء، فيما الجموع تعامل كأرقام أو تتحول إلى قطعان تحتاج الى من يفكر عنها، لكي تمارس طقوس العبادة للزعيم أو الذوبان في القضية. وذلك هو مآل من يدعي، وحده من دون سواه "احتكار" الحقيقة والوعي والعلم: احتقار الغير والناس عامة.

2 - عقل فاشي يفكر أصحابه بمنطق التوحيد والدمج والانصهار وراء شعار مقدس أو زعيم أوحد، ضد عدو مشترك أو مختلق. ولذا، فالهاجس في النظام الشمولي هو استئصال كل أشكال التعدد والاختلاف أو التعارض، وخنق كل ميل إلى التفرد والتفنن والابتكار، لمصلحة أحادية الخط والرأي والحزب والصوت، والزي أحياناً... مما يؤول إلى إنتاج نموذج بشري أفراده هم نسخ بعضهم عن بعض.

3 - منظومة أيديولوجية مغلقة قوامها جملة شعارات (مبادئ أو قواعد) تعتبر المرجع النهائي والمقياس الأوحد للنظر والعمل أو للمعرفة والممارسة، نظراًَ لكونها تفصل على نحو حاسم بين الحقيقة والكذب، أو بين الحق والباطل، أو بين الخير الأقصى والشر المحض، وكما يتجسد ذلك في الثنائيات المانوية للفسطاطين أو العالمين: الإسلام والكفر، المرشد الأعلى والشيطان الأكبر، الفردوس الاشتراكي والجحيم الرأسمالي...

أما وظيفتها فتقوم على قولبة العقول ومصادرة الحريات وتطويع الأجساد، وكل ما من شأنه أن ينتج الخضوع الأعمى، بالحكم على الناس أو محاكمتهم، بمنطق اختزالي، تبسيطي، بتصنيفهم بين مؤمن وكافر أو وطني وخائن أو تقدمي ورجعي أو مستقيم وضال... ولذا فإن النظام الشمولي يشتغل بخلق أعداء، في الداخل والخارج، لاتهامهم وإدانتهم أو محاربتهم... من غير ذلك يفقد علة وجوده وقيامه.

4 - حزب سياسي حديدي له وظائف عدة: (1) الترويج لمبادئ المشروع الشمولي بالتسويغ والمديح؛ (2) تبرير قرارات الزعيم والقيادة السياسية؛ (3) العمل على جذب الأنصار وحشد الأتباع بالتنظيم والتعبئة وراء الخطط والبرامج؛ (4) والوجه الآخر لهذه العملة من التصديق والمدافعة، هو الرد على الخصوم ومهاجمة الأعداء، باستخدام المفردات المضادة من التخطئة والتبخيس أو التحقير والتشنيع، وسواها من الأسلحة التي تستخدم في الحروب الرمزية والمعارك الأيديولوجية، والتي تسهم في أبلسة الآخر ومسخ فكره أو تشويه سمعته.

ولا يقتصر الحزب الفاشي على الانخراط في الحروب الكلامية والسياسية، بل يخوض أيضاً الحروب الفعلية، إذ له كتائبه المسلحة وميليشياته المقاتلة وحرسه الخاص، الجمهوري أو الملكي، وسواها من التنظيمات العسكرية التي تصبح أحياناً رديفاً للدولة أو تحل محل الجيش النظامي.

وكل ذلك يحول أعضاء الحزب إلى مجرد أدوات لتنفيذ ما يُملى عليهم. ولا غرابة، فلا وجود لحل وسط بالنسبة إلى النظام الشمولي والفكر الفاشي: فالفرد إما خادم أو خائن، إما تابع أو عميل، إما مجند لخدمة النظام أو فاسد ومخرب ينبغي استئصاله.

وبما أن القاعدة الحديدية هي الامتثال والطاعة أو التبعية والعبودية، بتصفية كل مخالف أو معارض، تسود أجواء الخوف المتبادل بين أعضاء الحزب الذين يخشون أو يرهبون بعضهم البعض، مما يحول الحزب إلى وكر للتجسس والتآمر أو إلى مسرح للصراع والانشقاق، كما شهدت تجارب الأحزاب الشيوعية في زمن ستالين أو ماو، أو تجارب الأحزاب القومية والوحدوية في العالم العربي.

5 - والوجه الآخر للحزب الحديدي هو أجهزة المخابرات التي تشتغل لمراقبة والرصد والتلصص أو التجسس على حياة الناس، مستخدمة أساليب التخوين والترهيب. ومن لا يصمت أو يذعن أو ينخرط في ماكينة النظام يهمش ويستبعد أو يتهم أو يخوّن أو يلاحق ويطارد، أو يعتقل ويقتل.

وذلك هو مآل وحدانية الحقيقة وأحادية الفكر وعقيدة الاصطفاء وتقديس القضية وعبادة الشخصية...

[4ـ النظام الشمولي العربي

مثل هذا النظام الذي ازدهر في الدول الاشتراكية، هو الذي جرى استيراده، في العالم العربي، من قبل الأنظمة التي استندت إلى أيديولوجيات مغلقة وأحزاب حديدية، ذات أصل قومي أو جذر ديني.

مع فارق أن النظام الشمولي الأصلي، السوفياتي، قد صادر الحريات واستأصل كل أشكال الاعتراض، ولكنه بنى مجتمعاً صناعياً وأمنّ العمل والسكن والتعليم والطبابة للجميع. في حين أن الأنظمة العربية قد استخدمت مساوئ النظام السوفياتي، باستنساخه بصورة فقيرة، مشوهة، مدمرة، على غير صعيد:

الأول هو إفراغ النظام الجمهوري من معناه، عبر إقامة نظام لتوريث الحكم من الآباء إلى الأبناء؛ الثاني هو اللعب على الوتر الطائفي أو المذهبي أو القبلي أو العائلي لتثبيت السلطة والمحافظة عليها، ولكن بضرب مفهوم المواطنة وتقويض النظام الديموقراطي؛ الثالث هو تدمير الاقتصاد وإفقار البلاد، بتخريج جيوش من العاطلين عن العمل من المعاهد والجامعات، أو بإهدار الموارد ونهب الأموال العامة والخاصة؛ الرابع هو سيطرة أجهزة المخابرات على كل مرافق الدولة وأنشطة المجتمع. ولعل هذا هو "الإنجاز" الذي حققته أنظمة الوحدة والتحرر والتقدم: بناء دول وكيانات حولت المجتمعات العربية إلى سجون فكرية، ومعتقلات سياسية بقدر ما وضعتها تحت رحمة القبضة الأمنية، أو جعلتها نهباً للمافيات المالية أو فريسة للعصبيات الأهلية، العنصرية أو الفاشية.

من هنا فإن الأوطان التي أقامتها بلغة التعظيم والتسبيح، أو بمنطق التطويع والتدجين، أو بأساليب التهديد والترويع، كانت وحدات هشة ضعيفة، ملغمة، تنتظر ساعة الانفجار، لكي تتفكك إلى عناصرها الأولى، الطائفية أو المذهبية أو العرقية أو الجهوية، كما حصل في يوغوسلافيا؛ وكما يحصل الآن في العراق وسوريا واليمن والسودان...

وحده لبنان الذي نجا من براثن الحكم الشمولي، قد مارس ديموقراطيته وفقاً لتركيبته التعددية وعلى طريقته. ولكن هذه الديموقراطية الناشئة، التي كانت تحتاج إلى تطوير، لم تصمد أمام الضغوط والعواطف التي هبت من جانب الأشقاء، قبل الأعداء، سيما منهم أصحاب المشاريع الشمولية الرامية إلى تعريب لبنان أو أسلمته على طريقة الأحزاب الفاشية والأصولية، القومية أو الدينية.

في أي حال إن النسخة العربية من النظام الشمولي هي الأسوأ كما تشهد الحروب الأهلية الجارية التي فاجأتنا بعنفها الفائق، كما فاجأتنا الثورات بإسقاطها أنظمة الحكم. ولا عجب أن يكون المآل كذلك، لأننا إزاء أنظمة جمعت بين الحقد الطائفي والمعتقد الاصطفائي والمنطق الإلغائي والحزب الفاشي، إضافة إلى التشبيح الأمبريالي.

[ 5ـ التشبيح الأمبريالي

التشبيح على الساحات المحلية والإقليمية أو العالمية، هو ما تمارسه الدول العظمى والقوى الفاعلة على هذه الساحة أو تلك، بتدخلها في شؤون هذا البلد أو ضد ذاك، من غير وجه مشروع مستند إلى قرارات الأمم المتحدة وموافقة أكثرية دول العالم.

هذا ما فعلته أوروبا، بعد تفوقها وصعودها على المسرح العالمي؛ ثم تلتها أميركا وروسيا. وهذا ما فعلته مصر الناصرية، وإن على نطاق أقليمي أضيق وبشكل محدود الأثر والفاعلية.

وهذا ما تفعله الآن إيران الخمينية. وهي تجمع بين العاملين القومي والديني، أي بين الغطرسة الإيرانية والاستكبار الإسلامي المؤسس على عقيدة الاصطفاء الشيعي وعقدة التضاد مع كل ما عداها؛ مما يزيد من منسوب العنف، حيث يمكن لهذه الدولة أن تستخدم استراتيجيتها في التدخل والتأثير.

ومن المفارقات الفاضحة أن دولة كإيران الخمينية أتت من تراث رفع طويلاً شعار المظلومية في مواجهة القهر والتمييز والاضطهاد، تدعم النظام السوري في مواجهة أكثرية شعبية تحركت في البداية بصورة سلمية لتطالب بالحرية والعدالة والكرامة. بذلك لا يفعل النظام الإيراني سوى أن يزيد من سفك الدماء ويطيل أمد المأساة. وإنه لأمر مخجل أن تعتبر طهران أن أمنها هو من أمن دمشق، فيما الأمر هو مجرد ذريعة واهية لم تعد تخفي الجوع الفتاك إلى التوسع والهيمنة.

وهذا أيضاً ما تفعله روسيا بوتين التي تحررت من كابوس الوحش الشمولي والأمني للعصر السوفياتي، لكي تنخرط في بناء مجتمع مدني مفتوح، ليبرالي وديموقراطي، فإذا بها، هي الأخرى، تقدم الذرائع المخجلة لدعمها النظام السوري، إذ هي لا تريد أن تخسر في سوريا ما خسرته في ليبيا أو ما فاتها كسبه، ولكن باستثمار دماء الشعب السوري.

ولا ننسى أميركا التي تخشى الآن سيطرة "القاعدة" وجماعة "النصرة الإسلامية" على المعارضة السورية، فيما هي كانت قد استخدمت "القاعدة" في حربها ضد النظام الأفغاني الذي كان موالياً للاتحاد السوفياتي، تماماً كما أن النظام السوري يتهم الآن "القاعدة" بالتآمر على سوريا، فيما كان داعماً لها في ما أحدثته في العراق من خراب وسفك للدماء. وهذا بالذات ما أسميه "تواطؤ الأضداد" على صناعة الخراب.

إنه التشبيح الاستراتيجي الذي تمارسه دول تريد أن تستعيد نفوذها، أو أن تحقق صعودها على المسرح، أو أن نقبض ثمن مواقفها، بتصدير الأسلحة أو بدعم الأنظمة الفاسدة، غير عابئة بمصائر الشعوب وحقوقها وحرياتها. وهكذا يجتمع التواطؤ والعجز وتقاطع المصالح على تدمير سوريا على مرأى من العالم ومسمعه.

[ 6ـ المثقف النرجسي

العنف يكمن أصلاً في بنية الثقافة وفي منطوق اللغة. يتجلى ذلك في الرموز التي نقدسها والحقائق النهائية التي نؤمن بها والأصول التي ندعي التطابق معها والنماذج القصوى التي نحاول احتذاءها.

من هنا فإن أفراد النخب الثقافية، في ما طرحته من المشاريع الأيديولوجية، الرامية إلى التغيير، تحت هذا الشعار أو ذاك، هم أول من يمارس العنف، ولو على المستوى الرمزي واللغوي، إذ هم يفكرون ويشتغلون تحت يافطة الأحادي والحتمي أو المطلق والنهائي أو الثابت والجوهري أو الفوقي والنخبوي.

نحن هنا إزاء صور وأطر ومقولات تشكل الخزان الذي لا ينضب لإنتاج العنف الذي يمارسه المثقفون بعقولهم المفخخة وخطاباتهم الملغمة بالاعتقادات الدغمائية والتصنيفات الضدية والمفاضلات الاصطفائية والتهويمات النرجسية. فأسهموا بذلك، في إنتاج الزعامات والأنظمة السياسية التي روجوا لها وسوغوا قيامها لكي يقعوا ضحاياها. وتلك هي الثمرة السيئة لممارسة ديكتاتورية الحقيقة وإرهاب الأصل وقدسية النص وتأليه القادة. واليوم، وبعد اندلاع الثورات العربية التي أسقطت الشعارات ومزقت الأقنعة، لتظهر الأنظمة عاريةً بحقدها وجنونها وبربريتها، ما زال كثيرون يقفون في صفها ويدافعون عنها. هذا ما يفعله "شبيحة" الثقافة الذين هم الوجه الآخر لشبيحة الأنظمة السياسية.

وهكذا فالعنف الرمزي هو أساس للعنف المادي والجسدي. من هنا فإن مشكلة المجتمعات العربية لا تكمن في منع النخب الثقافية من ممارسة أدوارها الرسولية النبوية على ما يردد بلا وعي ديناصورات الثقافة وعجزة الحداثة. بل إن هذا الدور هو أساس العلة وجذر المشكلة. مما جعل النخب تسهم في تفاقم المشكلات وصناعة الأزمات، بمعسكراتهم الأيديولوجية وثنائياتهم الضدية ومشاريعهم الطوباوية ودعواتهم المستحيلة...

ولنتوقف عند واقع المجتمع الثقافي في البلدان العربية، الذي هو من أسوأ المجتمعات. إنه ليس فردوساً للحرية ولا مملكة للفضيلة أو ملكوتاً للحقيقة، بالعكس تماماً. فالمثقفون لا يحسنون سوى نقض ما يطرحونه.

تشهد على ذلك معارك المثقفين على الشهرة والنفوذ والمناصب والجوائز، حيث الكلمات الجارحة هي أقسى من الرصاصات القاتلة، كما يتبادل التهم شعراء وفلاسفة وكتّاب بأقذع الأوصاف والنعوت.

تشهد أيضاً روابطهم واتحاداتهم، إذ هم لا يستطيعون إجراء انتخابات ديموقراطية، سليمة، من غير غش أو تلاعب أو تزوير. ففي بلد، كلبنان، وحدهم المحامون والأطباء والمهندسون يحترمون، في نقاباتهم، قواعد اللعبة لديموقراطية، لأنهم ليسوا، بالتأكيد، دعاة ديموقراطية. وهكذا فالداعية لا يحسن سوى انتهاك ما يدعو إليه.

وأخيراً هذه هي حالهم في إدارتهم للشأن الثقافي في الصحف والمنتديات ولجان الجوائر والتحكيم، وفي علاقاتهم بنتاج زملائهم، حيث تسود عقلية المحاصصة والمحاباة والعصابة والشللية والسرقة والتشبيح على حساب معايير الدقة والنزاهة والكفاءة، إلا من كان استثناءً، وهم قلة نادرة.

[ 7ـ ثقافة مختلفة

لا أقصد بالمثقف، طبعاً، منتج القصيدة أو الرواية أو اللوحة أو المقولة... وإنما أقصد أصحاب المشاريع على اختلاف الشعارات، سواء في معسكر الدين أو على جبهة الحداثة، قوميين ويساريين وإسلاميين. فالكل اشتغلوا بعسكرة الهويات والقضايا والشعارات، بتحويلها إلى متاريس أيديولوجية وخنادق حربية، فاستجمعوا مساوئ بعضهم البعض، لكي يزداد منسوب العنف ونحصد كل هذه المآسي والكوارث. وتلك هي حصيلة التشبيح الفكري الذي جعل المجتمعات العربية فريسة ملاك الله والحقيقة من جهة، وملاك الأوطان والبلدان من جهة أخرى، وذلك حيث وظفت الأسماء والرموز والقضايا والشعارات والقيم، من جانب من رفعوها من حراس الهوية وشرطة الثقافة، لمصلحة مطامعهم وأهوائهم وأحقادهم ونزواتهم، أو من أجل مناصبهم وألقابهم وسلطاتهم واستبدادهم وبربريتهم.

وليس صدفة "أن الذين أشعلوا الثورات الجارية لم يأتوا من النخب الثقافية بأيديولوجياتها وتياراتها وأحزابها وقادتها. بل أتوا من ثقافة أخرى أخذت تتشكل مع الدخول في عصر العولمة والمعلومة والشبكة...

ولا غرابة. فلكل ثورة جديدة ثقافتها المختلفة، التي تسهم في صنعها قوى المجتمع الحية والناشطة، الناشئة والخلاقة. من هنا فإن الذين يدبجون المقالات والافتتاحيات دفاعاً عن الثورات ومطالبها في الحرية والمساواة والعدالة والشراكة والكرامة، إنما يفكرون بعدة مستهلكة، صدئة، بل سيئة، إذ هم الوجه الآخر لأنظمة الاستبداد والفساد. والرهان مراجعة عدتهم الفكرية ومنظوماتهم الخلقية، من أجل تجديدها في ضوء التحولات والتحديات والصدمات. فلا يعقل لأحدنا أن يصبح منظراً للثورة أو مفكراً للثورة، فيما هو كان يستبعد قيامها بانتظار المعجزة، كمن ينتظر المهدي المنتظر.

ولعلّ من حسن حظ القوى الجديدة التي فجرت الحراك الشعبي، أن لم تمسك بزمام السلطة، التي سطا عليها ديناصورات الشريعة والعقيدة والسياسة والثقافة، بانتظار أن تتمكن تلك القوى من أن تعد العدة التي يتطلبها قيام مجتمع مدني، تعددي، ديموقراطي، تسهم في بنائه مختلف الحقول والقطاعات أو القوى والتيارات.

لقد ولى الزمن الذي يستعبد فيه حاكمٌ بلداً بأسره أو يدجن حزبٌ مجتمعاً بكامله، تماماً كما انتهى زمن الأحادية للدولة العظمى، على المستوى العالمي، لمصلحة تعدد الأقطاب والمراكز والنماذج، في السياسة والمعرفة والتنمية.

وهكذا، لم تعد تجدي إدارة الصراع السياسي والحراك الشعبي، من أجل تغيير بُنى المجتمع السياسية والمجتمعية والاقتصادية بعدة فكرية قديمة. لا مهرب من بلورة استراتيجية فعالة في النظر والتدبر أو في العمل والتحرك، من أبرز قواعدها كسر عقلية الوحدانية والامتلاك والانفراد، في ما يخص مختلف القضايا والشعارات، وأولها قضية الحقيقة، بحيث يجري فتح مفهومها على إمكاناته الغنية والواسعة، بتحريره من ذهنية الاحتكار والمصادرة والقبض، ومقاربته بمفردات التعدد والازدواج والاختبار والتأويل والتركيب، وبالأخص فتحه على لغة الخلق والابتكار.

فليست الحقيقة مجرد الرغبة في أن نعرف أو أن نتماهى مع ما نعرفه ونعمل به، بل هي قبل ذلك القدرة، قدرة كل فاعل اجتماعي، بصرف النظر عن مهنته ومكانته، أن يخترع ويبتكر ويجدد، لكي يكون مشاركاً فعالاً في أعمال الإنماء والبناء، على صعيد من الصعد أو بوجه من الوجوه. من غير خلق نعيد إنتاج المشكلات المراد حلها، والمجتمعات المراد تغييرها، نحو الأسوأ والأخطر.

المستقبل 

معد الدراسة: 
علي حرب