فيلم "خمس كاميرات محطمة": هذا دم حقيقي ورصاص!

بقلم: 

 

يتراكم الغضب الفلسطيني هذه الأيام انتصاراً لأسرى الحرية المضربين عن الطعام، ورفاقهم الذين قضوا أجمل سنوات شبابهم في سجون الاحتلال العنصري الإسرائيلي. يحدس كثيرون بأننا على أعتاب انتفاضة ثالثة. إسرائيل وأجهزتها الأمنية وقادتها السياسيون مرتبكون ولا يريدون أن تفلت الأمور نحو ذلك الاتجاه. ما يريدونه هو الاستمرار في توسيع الاستيطان، وإهانة الشعب بكامله، ومحاصرته في الجغرافيا، والأمن، والاقتصاد، وخنقه بالكامل ... دون أن يصدر عنه أي رد فعل غاضب، أي انتفاضة، أو مقاومة، أو حتى فيلم! ارتباك اسرائيل مُضاعف هذه المرة لأن الغضب الحالي، وأي شكل متطور عنه قريباً، سواء على شكل انتفاضة أو غيرها، سوف يكون مرتبطاً عضوياً وسببياً بقضية الأسرى العادلة. لن تستطيع اسرائيل أن تتلطى خلف خطاب "الإرهاب الفلسطيني" وسوف تواجه مهمة صعبة إذ كيف لها أن تصوغ إعلاماً وخطاباً سياسياً يواجه مطلباً لا يضاهيه آخر في عدالته: إطلاق ألوف الأسرى الذين كان من المفترض إطلاقهم من سنوات طويلة.

في ذروة الغليان الداخلي الفلسطيني هذه كاد فيلم "خمس كاميرات محطمة" للفلسطيني عماد برناط أن يشرع مساحة واسعة في الإعلام العالمي لصور متواصلة من ذات الغليان المستمر في قرية بلعين على مدار اكثر من سبع سنوات. ترشح عمل برناط للفوز بجائزة افضل وثائقي هذا العام في جوائز الأوسكار. ورغم انه لم يفز بها إلا أن مجرد وصوله للترشيح يُعتبر إنجازاً كبيراً، ذلك أن سجل صناعة السينما الأميركية و"أوسكارها" إزاء تعاملها مع قضايا وصور العربي والمسلم يزخر بالعنصرية والنمطية.

الأهمية الراهنة لـ "خمس كاميرات محطمة" تكمن في تصويره ونمذجته لنضالات أهل قرية بلعين ومؤازريهم من المناصرين والنشطاء من كل العالم ضد عنصرية جدار الفصل الذي يقطع أوصال القرية، وتقديمه كل ذلك الآن كوسيلة نافذة في مواجهة الاحتلال. عماد الذي اشترى كاميرا فيديو متواضعة لتوثيق ميلاد ابنه "جبرين" عام 2005، وجد نفسه مُنساقاً لتوثيق ميلاد قصة نضال بلعين ودرسها البليغ ضد الاحتلال الاسرائيلي وضد الجدار البشع. كان يصور والده الختيار، وأولاده الأربعة، وزوجته الفلسطينية المولودة في البرازيل. كاميرا عماد الأولى البسيطة والبدائية وصورتها المهتزة وزواياها غير المحترفة تُدخل المُشاهد في تفاصيل حميمية لبيت فلسطيني متواضع أرهقته الأقدار وأرهقت قريته كلها. تخرج الكاميرا من بين جدران البيت إلى حقل الزيتون والى سرب طيور مقيم في سمائه. تنزل الكاميرا لتصدم عيوننا بالبلدوزرات تضرب في الأرض وترسم حداً بين قلب بلعين ورئتها.

الكاميرا التي وُلدت عادية وبسيطة وعائلية أصبحت عين بلعين الراصدة، ولأنها كذلك استهدفها رصاص الغاصب الذي لا يريد توثيق اغتصابه ... حطمها! جاء عماد بكاميرا ثانية، رصدت، صورت، وثقت، فجاء الغاصب وحطمها أيضاً. جاءت كاميرا ثالثة، ثم رابعة، وخامسة ... تتوزع في التقاط الصور، بين نمو الوليد "جبرين" وحياته البريئة، ونمو الجدار العنصري عدو البراءة. نتابع جبرين يكبر ويلثغ بالأحرف الأولى ويركب كلماته الأولية: "جدار"، "جيش"، "رصاص"! يغتال الاحتلال اجمل لحظات العمر وصفاء البراءات. جبرين وبقية أولاد القرية يحبون النشطاء الأجانب، هؤلاء الجميلين الذي جاؤوا من زوايا الأرض مدفوعين بالتوق لعدالة غائبة. "فِل" (Phil) احد هؤلاء، يقدم في أوقات كثيرة مع زملائه عروضاً بهلوانية لأولاد القرية حتى تتفتح فيهم البسمات والضحكات رغم صرامة الأسلاك الشائكة التي تلتف حول عنق قريتهم. شباب القرية ونساؤها وأولادها وبناتها هم شخوص الفيلم. ليسوا ممثلين ولا محترفين. هؤلاء بشر عاديون يكافحون كل يوم كي يعيشوا حياة عادية. تنتصب في وجوههم بوابات حديدية وأسلاك وخرسانات عليهم أن يطلبوا إذن الغاصب كي يجتازوها إن إرادوا الانتقال من ظل زيتونهم إلى شمس حقلهم.

كل يوم جمعة يأتي بصلاتين، صلاة الظهر، ثم صلاة المقاومة! يأتي الناس، والنشطاء، ويمارسون طقس هدم الجدار. "أديب" ابن ارض البلد يذرع المكان والحقول باثاً روح التحريض بابتسامة لا تغيب، وروح تتقافز فوق الريح، يشجع الناس و"يربي فيهم الأمل". رفاقه، الشجرة، و"الضبع" و"فِل" وعماد والآخرون كلهم يصيرون جداراً يومياً يتلقى الرصاص المطاطي من صفوف الجنود المصطفين على الجانب الآخر. على طول الحد الجديد الذي يرسم مسار الجدار يتناثر الدم، وترصده كاميرا عماد. روعة الفيلم وعبقريته تكمن في عفويته وبساطته المرعبة. المُشاهد لا يرى ممثلين يلبسون زي الجيش ويطلقون قنابل بلاستيكية، هذا جيش حقيقي بكامل عتاده، هذه قنابل ورصاص حقيقي وقاتل، وهذا الدم الذي يسيل طازجاً وحاراً من شباب في عمر الياسمين على الأرض، هو دم حقيقي. الكاميرا، عين بلعين، تلتقط صورة الدم، الدم الذي يتصل إلى خارج فلسطين كأسطورة غامضة تنادي على ناس من بعيد كي يأتوا ويموتوا هناك. الكاميرا تحضن الشهيد "فِل"، الأجنبي الذي قتله الرصاص المطاطي وأسقطه على حد الجدار. جبرين الآن يدخل عامه الرابع ويسأل أباه عماد لماذا قتل الجيش "فِل". جبرين كان يحب "فِل" ويسميه الفيل، كما يسميه بقية الأولاد وهي التسمية التي كان يحبها فِل نفسه. صور فِل تملأ القرية وجنازته تخرج وراءها بلعين كلها ويصدح قرآن حزين في سمائها.

تحطيم الكاميرا الخامسة لم يعد كافياً. هناك عين وراء عين الكاميرا يجب قلعها. عماد نفسه هذه المرة. استهدفه الغاصبون وصرعوه بالرصاص. نراه بعين كاميرا مجاورة يغرق في دمه. يحملونه ويعود للحياة من حافة الموت. على مدار ست سنوات وعيون كاميرا عماد صارت عيونه ترصد وتكتب ما يصير في قرية بسيطة، لكن عظيمة، اسمها بلعين. جبرين ابن الخامسة يدخل عاماً جديداً مع خروج كل كاميرا من كاميرات أبيه بعد تحطيمها. نراه في آخر الفيلم يركض في ماء شاطئ فلسطين وقد نجح أبوه في تأمين زيارة له للداخل. كان مع أخيه يركضان ويضحكان ويقولان "البحر الحلو". أديب روح بلعين وناشطها الفوار اعتقل وسجن. ينتهي الفيلم ولا ينتهي التصوير. تنتظر بلعين خروج أسيرها أديب، وخروج ألوف الأسرى الذين يلتهب أحبتهم على وقع عشق بلعين للحياة والحرية.

Email: khaled.hroub@yahoo.com

المصدر: 
الأيام