تركيا وإسرائيل تملآن "الفراغ الحامل"

بقلم: 

 

ثمة نظريتان مثيرتان، ومتطابقتان، في علم الفيزياء: الأولى تقول أن "الفراغ الحامل" هو الذي تنبثق منه كل الموجودات في الكون. والثانية أن أمّنا الطبيعة "تكره الفراغ".

هذا القانونان قيد العمل معاً الآن في المنطقة.

فثمة فراغ هائل خلقه انهيار النظام الإقليمي العربي غداة هزيمة 1967 والغزو العراقي للكويت، ومن بعدهما التمزقات الداخلية الناجمة عن تمخضات ثورات الربيع العربي. وكما يحدث عادة بعد سقوط الامبراطوريات، تنقلب الموازين، وتتغير المعطيات، ويبرز الفراغ الذي يفترض أن "يحبل" بما توفره الظروف الجديدة.

الولايات المتحدة ملأت هذا الفراغ بعد حرب الكويت، لكنها الآن تُعد العدة لتقليص التزاماتها في الشرق الأوسط (تقليص وليس انسحابا) بهدف التركيز على استراتيجية "الاستدارة شرقاً" (Pivot strategy ) نحو منطقة آسيا - الباسيفيك التي تسيطر الآن على 60 في المئة من تجارة العالم والتي ستجري على أرضها صياغة النظام العالمي الجديد.

وكما فعل الرئيس نيكسون بعد انسحابه من فيتنام في الستينيات، حين عمد إلى اعتماد وكلاء إقليميين في شتى انحاء العالم (شاه إيران في الخليج، البرازيل في أميركا اللاتينية.. ألخ) بهدف إعادة التوازن لنفقات الزعامة الأميركية في العالم، يتّجه الرئيس أوباما الآن للقيام بالأمر نفسه عبر وكلاء آخرين. النماذج: فرنسا وبريطانيا في ليبيا، فرنسا في مالي، وغيرهما.

لكن، أي قوى إقليمية يحتمل أن ترشح أميركا لملء "الفراغ الحامل" الراهن في المنطقة العربية؟

إيران مستبعدة، ليس لأنها خصم لأميركا، إذ أن هذه الأخيرة استعانت بها في حربيها ضد طالبان وصدام حسين، بل لأن بلاد الخميني ربما دخلت  النزع الأخير من انفجارها الداخلي

 (Implosion)  بفعل تراقصها الخطر على شفير الافلاس الاقتصادي والاضطرابات الاجتماعية.

مصر أيضاً مستبعدة، لأنها لن تستطيع التعافي والوقوف على رجليها قبل عقد أو عقدين من الآن. وكذا الأمر بالنسبة إلى السعودية التي هي عملاق مالي، لكن تعاني من أرجل ديمغرافية وعسكرية من طين.

من يبق؟

طرفان: تركيا وإسرائيل اللتان تتمتعان بالقدرات الاقتصادية والعسكرية التي تمكنهما من بسط نفوذهما الإقليمي. فتركيا أصبحت الآن الدولة الـ17 الأكبر اقتصاداً في العالم، ولديها جيش هو ثاني أقوى مؤسسة عسكرية في حلف الأطلسي، كما أنها طوّرت أخيراً استراتيجية العثمانية الجديدة تمهيداً لدور إقليمي شرق أوسطي جديد. وإسرائيل بيهودها العالميين قوة مالية عالمية كبرى، ولاتزال تحتكر أقوى ترسانة عسكرية تقليدية ونووية في كل الشرق الأوسط، ولها طموحات إقليمية ضخمة قديمة.

هذان الطرفان لم ينتظرا "الوكالة الإقليمية" الأميركية الرسمية لممارسة عملية ملء الفراغ. فهما تتقاسمان الآن النفوذ في شمال العراق، وتركيا باتت لها الكلمة الأولى في المحافظات السنيّة الأربع، فيما اسرائيل تحاول مد خيوط مع بعض القوى الشيعية العراقية المتوجسة من "الصعود السنًي".

وفي سورية، بات "السلطان التركي" هو مرجعية العديد من الغالبية السنّية، فيما تستعد إسرائيل لإعادة نسج علاقاتها القديمة مع بعض قوى الطائفة العلوية في حال قرر هؤلاء إقامة دولة انفصالية قد لاتحظى بموافقة إيران.

الأردن وفلسطين ستكونا موضع تنافس تركي- إسرائيلي، خاصة إذا استمر تعثُّر المشكلة الفلسطينية، فيما لبنان سيكون موضع تنافس آخر ولكن بعد تقرير مصير حزب الله ودوره، علماً أن الأتراك عمّقوا علاقاتهم مع السنّة والدروز.

هل نسينا شيئاً هنا؟

أجل. إنه التساؤل عما إذا كانت عملية ملء الفراغ على يد الأتراك والإسرائيليين ستتم بالتنسيق بينهم برعاية أميركية في إطار كوندومينيوم (حكم مشترك)، أم في إطار تنافسي بإشراف أميركي؟

فللنتظر لنر.

لكن من الواضح أن الطبيعة الكارهة للفراغ لن تنتظر طويلاً، ولاكذلك الفراغ الحامل.

المصدر: 
موقع المدن