القضية الفلسطينية والثورات العربية

بقلم: 

 

لم تغب القضية الفلسطينية عن الحراك الثوري العربي، منذ انطلاقه قبل عامين تقريباً، وإنما تجلت حضوراً قوياً في شعاراته ومواقفه المنتصرة لعدالة مقاومة الظلم ومقارعة الاحتلال، بحكم مركزيتها التاريخية عند الشعوب العربية والإسلامية وفي جوهر الصراع العربي - الصهيوني، وللعلاقة المباشرة بين النضال الإنساني من أجل الحرية والعدالة والديموقراطية وبين قضية فلسطين. وعند بدء الثورات العربية، وما أظهرته من استعداد الشعوب للتضحية ودفع أثمان الحرية واستقلال الإرادة والكرامة الوطنية في وجه الاستبداد والظلم والفساد، ارتفع منسوب الأمل لدى الفلسطينيين بمخرجات التحولات الجارية وتغير الأنظمة التي كانت تدور في فلك السياسة الأميركية والغربية الداعمة للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، بما سيصبّ في مصلحتهم.

وقد ارتدّ صدى الحراك نحو الأراضي المحتلة، بتظاهرات شعبية عارمة ضمن مسار ثوري للتغيير، حتى وإن اتسم بالبطء تارة وبالخمود والسكون طوراً، قياساً بالفترة الطويلة الواقعة بين آذار 2011 للمطالبة بتحقيق المصالحة وإنهاء الاحتلال، وبين مطلع العام الماضي للتنديد بالأوضاع الاقتصادية الخانقة، ومن ثم منتصفه احتجاجاً على زيارة كانت مقررة إلى رام الله لنائب رئيس الوزراء الإسرائيلي شاؤول موفاز (رئيس حزب كديما الذي حصد مقعدين في الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة)، ولاحقاً في صورة تحركات متقطعة ولكنها متواصلة ومرشحة للاستمرارية في ظل بيئة حاضنة للتصعيد.

بينما جاء العدوان الإسرائيلي ضد قطاع غزة، بحيثياته ومآلاته، وكذلك المسعى الفلسطيني في الأمم المتحدة، بزخمه الدولي ومكسبه السياسي والديبلوماسي، على وقع الثورات العربية وبدفع أجوائها، مما قدم معطى آخر للقائلين بالانعكاس الايجابي للحراك على القضية الفلسطينية، برغم أن المشهد لا يكتمل عند هذا الحدّ فقط، كما لا يتجاوز أهميته أيضاً.

فلا شك بأن التحولات السياسية في المنطقة العربية ستلقي بظلالها على القضية الفلسطينية، إلا أن نواتج الثورات التي تتحقق بإرادة الشعوب تطلعاً لغدٍ أفضل من الحرية والاستقلال والكرامة والديموقراطية، بما يؤدي إلى نهضة الأمة وتقدمها، تشكل نصيراً وعمقاً عربياً وإسلامياً لمقاومة الشعب الفلسطيني، بشتى أشكالها وفي مقدمتها الكفاح المسلح، لتحقيق أهداف التحرير وتقرير المصير وعودة اللاجئين إلى ديارهم وأراضيهم.

غير أن انشغالات دول الثورات العربية بأزماتها وقضاياها الداخلية، وبصدّ محاولات التدخل الخارجية المضادة، يجعلها غير مؤثرة، آنياً على الأقل، في تقديم الدعم والنصرة المطلوبين للفلسطينيين، خارج سياق المواقف التضامنية التي برزت أثناء عدوان غزة. وقد وقفت هذه الحالة وراء أحد أهداف القيادة الفلسطينية للتوجه نحو الأمم المتحدة لنيل فلسطين صفة «دولة مراقب» غير عضو في المنظمة الدولية (29 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي)، من أجل إعادة القضية إلى صلب الاهتمام العربي والدولي بعدما أصابها من تراجع.

فيما تحتاج عملية التغيير والإصلاح المنشودة وعودة الاستقرار للمنطقة إلى سقف زمني، يقدره خبراء بقرابة 5 7 سنوات على الأقل، وأحياناً عشر، ليصار بعدها إلى عقد الآمال في دعم حقيقي ومؤثر للقضية وللشعب الفلسطيني، بما يمنح الاحتلال فرصة كافية لتعميق الخلل القائم لمصلحته.

وقد بدت الهجمة الاستيطانية في الأراضي المحتلة، منذ بدء الثورات العربية، وكأنها متحررة من الضغوط، ولكنها، أيضاً، تنمّ عن منسوب القلق الإسرائيلي الداخلي مما سيسفر عنه الحراك من واقع جديد لا يصبّ في مصلحته. وبالنظر إلى توليفة البرلمان الإسرائيلي «الكنيست»، الذي جرت انتخاباته في 22/1 الماضي، والتي ستعكس نفسها في تشكيلة الحكومة الجديدة، من حيث انتصار اليمينية المنجرفة أكثر نحو التطرف والغلو، حتى باتت سمة عامة تكتسب مشروعيتها بين الأحزاب الأساسية في الحياة السياسية، فإن وتيرة الاستيطان والتهويد والعدوان ضد الشعب الفلسطيني ستزيد وتأخذ جوانب أكثر خطورة.

وإذا استمرت سياسة الاحتلال في استلاب الأرض والقرار معاً، مع الانشغالات العربية عن القضية والانقسام الفلسطيني والمحاولات الغربية لإعادة رسم خريطة المنطقة بما يخدمها، فلن يبقى من المساحة المخصصة لإقامة الدولة الفلسطينية المنشودة شيء، بعدما قضمّ الاحتلال 80% من مساحة الضفة الغربية المحتلة، مبقياً أقل من 20% فقط للفلسطينيين، تشكل 12% من فلسطين التاريخية، ضمن ثمانية «كانتونات» غير متصلة جغرافياً، لتشكل مع مساحة قطاع غزة قوام الدولة، وفق الرؤية الإسرائيلية للكيان الفلسطيني المستقبلي الذي لا يخرج بالنسبة إليها عن إطار حكم ذاتي معني بالسكان باستثناء السيادة والأمن الموكولتين للاحتلال.

 

غلبة «التمكين» على «التحرير»

 

إن مجابهة هذه التحديات، مجتمعة، لا تستقيم مع معادلة «غلبة التمكين» على «التحرير»، التي تزخر بها أدبيات الإخوان المسلمين ومارسوها عملياً عقب عدوان 1967، بانتظار توفر شروط الحسم النهائي للصراع، بما سمح لهم، عبر هذه النظرة التي توسع من أفق الصراع الزمني وتعتقد يقيناً أن الحسم سيكون في مصلحة الأمة مستقبلاً، إمكانية الإفلات من ضغط اللحظة وحصارها.

طغى هذا المفهوم على معتقد الإخوان، وهم خارج السلطة، بعد حرب حزيران، متجلياً في ضرورة تأجيل الجهاد لأجل فلسطين إلى حين تحقيق مقدمات التغير الداخلي، بأسلمة المجتمع أفراداً وأنظمة، ونهوض الأمة العربية والإسلامية وحشد طاقاتها وتوحيد إرادتها وقرارها السياسي، مما يسند الانطلاقة في صورة دولة ونظام إسلامي أو نهضة إسلامية شاملة، ويوفر مناخاً حراً للممارسة بدون موانع السلطة أو الاصطدام المباشر معها. ولكن «هذا الطرح خلا من استراتيجية واضحة للممارسة الجهادية»، بحسب مراجعة نقدية للقيادي الإخواني السابق عبد الله أبو عزة (في كتابه «نحو حركة إسلامية علنية وسلمية»، 1989، ص179)، كما أخفق في تغيير الأوضاع «إسلامياً»، بما ثبت عدم نفع تأجيل القضية لمسألتي التحرير وحل الإشكاليات الداخلية معاً، بسبب فرض علاقة شرطية عضوية بين تغيير الوضع العربي وقضية التحرير ومجاهدة العدو الخارجي.

أما وقد بات الإخوان في السلطة، جراء ما أفرزته الثورات العربية من ثقل انتخابي إسلامي حاكم في كل من مصر وتونس (بالشراكة مع قوى أخرى وإن ظلت له القيادة) وليبيا (بطريقة مختلفة)، وحضور قوي في المشهد السياسي الراهن، فإن القضية الفلسطينية تبقى الامتحان الفعلي لبرنامجهم ومواقفهم وأفعالهم وهم في مواقع القرار.

وإذا كانت سلطات الاحتلال قد أدخلت من ضمن حسابات شنها الحرب على غزة هدف تبين معالم المحطة الفاصلة بين مرحلتي ما «قبل» وما «بعد» مناخ التغيير العربي، لا سيما ردّ فعل القيادة المصرية الجديدة، فإن العناصر المضادة للعدوان تراوحت بين ظهير استراتيجي مصري لقطاع غزة، وشرايين تغذية له، سياسية واقتصادية وتسليحية، لم تكن متوافرة سابقاً، ودعم تركي للشعب الفلسطيني، ورفد إيراني لقوى المقاومة، بخاصة حماس والجهاد الإسلامي، بالسلاح والتدريب والمال، مقابل موقف عربي متضامن لم يصل حدّ المستوى المطلوب، ومحدد دولي، تجسد في انتصار أميركي للاحتلال ومواقف أوروبية متباينة، مما أثـّر في مسار العدوان، وليس في نتيجته.

هذه العناصر، رغم تباينها، أدت إلى «تفاهمات وقف إطلاق النار في قطاع غزة»، في 21 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، برعاية مصرية بالتنسيق مع تركيا وقطر، غداة انتصار قوى المقاومة الفلسطينية على الاحتلال، بإفشال أهدافه وفرض شروطها في اتفاق التهدئة، وفرض قوة ردع معينة ستجد حضورها في معادلة الصراع العربي الصهيوني.

إلا أن هناك من توقف عند الدور المصري، الذي لم يخرج بحسب كثيرين، عن عهد النظام السابق، أي دور الوسيط في التوصل إلى تهدئة بين قوى المقاومة وسلطات الاحتلال، والحصــول علــى تعهد بعدم إطلاق الصواريخ من غزة، وفق قــولهم، في ظل محددات الحاجة للتهدئة إزاء وضع داخلي غير مستقر، والعلاقة مع الدول الغربية والمساعدات والقروض المالية الأميركية المنتظرة، بما أبقى خـــيارات الــــرئيس محمد مرسي محدودة، ولكنها تقطع الانسجام مع منظور «الإخوان المسلمين».

وزاد من ذلك، ما يمكن توصيفه بحضور «باهت» للقضية الفلسطينية في خطاب الرئاسة المصرية، وفي برنامجها، لا سيما قضيتي القدس والمسجد الأقصى، اللتين تحتلان مكانة مهمة في المرجعية العقائدية للإخوان، كما للإسلاميين والعرب عموماً، فضلاً عن المواقف «المجانية» التي تصدر من بعض قيادات الجماعة، والتي تتجاوز «المحدد العقيدي» نحو مقاربة «التكييف» البراغماتي لمتغيرات اللحظة، عبر إيصال رسائل للمجتمع الدولي بالرغبة في السلام ونسج علاقات الصداقة مع الإدارة الأميركية المنحازة للاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، والحديث تارة عن احترام الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، وعدم المسّ بكامب ديفيد، وطوراً بإرجاء إعادة النظر فيها بعد استتباب الأوضاع الداخلية والعودة إلى الشعب.

 

صمت الحملان

 

عند الإحالة إلى سوابق تاريخية، نجد تقاطعاً مع ما سبق وليس انفصالاً عنه، حضرت في مفصل زيارة الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات إلى القدس المحتلة عام 1977، عندما لم تعلن جماعة الإخوان موقفها مباشرة، بل فضلت التريث لأسباب عنصر المفاجأة والظن بأنها تقابل عودة الأراضي المحتلة سلماً دون تقديم التنازلات، وتأييد عدد من رجال الدين لها باعتبار أن السلام من الإسلام، فضلاً عن عدم رغبتها بخوض معركة جديدة ضد النظام في وقت كانت تلملم فيه جراحها بعدما سمح لها بقدر من حرية الحركة والاعتراف بها. لكنها اضطرت، أمام الضغط الشعبي والانقسام العربي، لإظهار موقفها بوصف الزيارة خطوة لا يقرّها الإسلام.

بينما صدر من بعض قادة الإخوان مواقف لا تنسجم مع الخط العام للجماعة، مثل دعوة عبد المنعم أبو الفتوح «المجتمع الدولي الى تكوين دولتين فلسطينية وإسرائيلية كحل موقت يقود في ما بعد لخطوة تأسيس دولة ثنائية القومية في فلسطين يتداول اليهود والمسلمون والمسيحيون على قيادتها كحل نهائي للصراع» (جريدة الحياة اللندنية، 24/6/2008)، فيما نـُقل على لسان محمد حبيب قوله ان «الجماعة ستعترف بإسرائيل إذا ما عادت إلى حدود عام 1948». غير أن مكتب الإخوان سارع لنفي ذلك، مؤكداً ثباته على موقف المطالبة بتحرير أرض فلسطين، وبإسباغ الطبيعة الإسلامية على القضية الفلسطينية بضوابطها وأصولها المستمدة من شرع الله تعالى، و«إن كان ثمة اجتهاد ففي السبل والوسائل مع وجوب اتفاقها مع الغايات وتحقيقها للأهداف المرعية» (جريدة الحياة 14/4/2007).

وينهج السلفيون «الجدد»، المتحولون من مسار القطع مع السياسة إلى الانشغال فيها، على النمط نفسه، عبر حديث حزب النور عن «عدم محاربته إسرائيل وإمكانية التطبيع معها بما تقتضيه المصلحة، عند المشاركة في الحكم، وعدم سعيه لإلغاء معاهدة كامب ديفيد» (21/12/2011)، رغم نفيه ذلك أمام ردة الفعل الغاضبة، أعقبه تصريح وزيرة الخارجية في المفوضية الأوروبية كاثرين آشتون (27/12/2011) حول «اعتراف السلفيين بإسرائيل خلال لقاءاتهم مع ممثلي دول الاتحاد الأوروبي ووجود اتصالات في ما بينهم»، بحسب قولها.

وينمّ ذلك عن موقف متراوح بين «الديني» و«السياسي»، وبين ضوابط الشرعية الإسلامية ومتطلبات الحقل السياسي. وقد حاولت الجماعة، أحياناً، إمساك العصا من المنتصف دون التنازل عن الثوابت، لكن مسعى التوازن وهو يحاول الإمساك بطرفي الثابت التاريخي والمراحل المتحركة، كان يميل إلى أحدهما أحياناً، ليظهر للعيان أن ثمة إربـــاكاً في المواقف وارتخاءً في الإمساك بالثابت التاريخي لمصلحة الممارسة البراغماتية. إلا أن الإشكالية الأكثر خطورة هنا عند توظيف الدين لأهداف سياسية وتغطية المسلكية السياسية والدنيوية بالدين.

وإزاء ذلك، فإن الجـــانب الفلـــسطيني معنيّ بالاستفادة من الأجواء العربية الراهنة والتغـــير في الـــدور المصري في ما يتعلق بالمصالحة، من أجل إنهاء الانقسام ووضع استراتيجية وطنية نضالية ضد عدوان الاحتلال الآخذ بالتصعيد..

المصدر: 
السفير