شعب بدون قيادة*

بقلم: جميل هلال

 

البحث في تشخيص مأزق النخبة السياسية الفلسطينية الراهنة من مدخل ما يقع عليها من مهام كقيادة في مرحلة ابتعد ويبتعد فيها تحقيق هدف إقامة دولة فلسطينية مستقلة، يشير إلى فقدان النخبة السياسية الراهنة للشرعية بمضامينها المختلفة (الكفاحية والديمقراطية الانتخابية والبيروقراطية الخدمية). وإلى مسؤولية نخبة أوسلو/المنظمة عن تعطيل المؤسسات الوطنية (مؤسسات م. ت. ف.، ثم مؤسسات السلطة الوطنية)، ومسؤوليتها عن توليد انقسام سياسي حاد نتج عنه سلطتان متعاديتان (لكل منهما أجهزتها الأمنية والبوليسية وسجونها ووزاراتها ومرجعياتها وفضائيتها وصحفها وعلاقاتها الخاصة الإقليمية والدولية) تركتا أثاراً سلبية للغاية على مسيرة النضال الوطني، وعرّضتا الحركة الوطنية للمزيد من الانكشاف للضغوط والتدخلات الخارجية.[1]

ولدّ الانقسام مسعى كل من القطبين المتنافسين للاستقواء بقوى خارجية لكل منها أجندتها الخاصة تجاه المنطقة، مما عمق المأزق والانكشاف. كما غذى الانقسام وتهميش المؤسسات الوطنية والتداخل بين مؤسسات السلطة والتنظيم السياسي النزعة المحلية والرؤية الفئوية التي غذّت بدورها مؤسسات الانقسام. إن اختزال الديمقراطية، وبخاصة تحت احتلال استيطاني استعماري، إلى مجرد عملية انتخابية وتغييب هدفها الوطني والإحجام عن تحديد أسس للتعامل الوطني مع نتائجها، ترك انقساماً حاداً أضعف إلى أبعد الحدود الحركة الوطنية الفلسطينية.  أفقد فشل جهود إنهاء الانقسام فئات واسعة من الشعب الفلسطيني، وبخاصة من الشباب، الثقة في النخبة السياسية من كلا التنظيمين، ولم تبرز في الحقل السياسي الوطني نخبة قادرة على قيادة حركة جماهيرية ضاغطة على الطرفين لإنهاء الانقسام.

فشلت النخبة السياسية (ومعها النخبة الاقتصادية والنخبة الاجتماعية) في إرساء أساس لاقتصاد وطني يفك تبعية النشاط الاقتصادي في الضفة والقطاع عن الاقتصاد الإسرائيلي ويبعده عن سمة الريعية المتمثلة في الارتهان شبه الكامل للتمويل الخارجي. إن أكثر ما تحتاجه الحركة الوطنية الفلسطينية (داخل وخارج فلسطين المحتلة) هو قيادة سياسية تنشط في أطر مؤسسات وطنية مبنية على أسس ديمقراطية موجهة نحو إشراك الشعب الفلسطيني في المواقع المختلفة في معركته من أجل الحرية والعودة.

سذاجة اختزال الإستراتيجية الوطنية إلى ثنائية المفاوضات - المقاومة المسلحة

الشرط الفلسطيني متعدد المكونات مما يجعل من السذاجة اختصار إستراتيجية الحركة الوطنية بثنائية التفاوض أو المقاومة، كما من السذاجة اختزال كل منهما، كما حصل، في شكل واحد فقط وبدون ضوابط أو استثناءات أو اشتراطات أو تحديدات. فلا فائدة ترجى من التفاوض إن لم يخدم عملية التحرر الوطني ويعزز حق تقرير المصير. وقد ينتج عن أعمال تصنف كمقاومة أضرارا بالغة إن لم تنضبط، هي أيضاً، إلى عملية التحرر وتقرير المصير وإن لم عدل في ميزان القوى لصالح المشروع الوطني.

 

إن الفعل المقاوم فعل شمولي ومتعدد الأبعاد (دبلوماسي وسياسي وفكري وثقافي وفني وتنظيمي وتعبوي وممانع ويأخذ أحياناً أشكالاً عنيفة ضد المحتل والمستبد)، ومطواع للشرط المحدد لكل موقع من مواقع الشعب الفلسطيني العديدة. ويفترض أن تميز أشكال الفعل المقاوم بين وضع الفلسطينيين داخل الخط الأخضر حيث اللامساوة البنيوية والتمييز العنصري والحرمان من الحقوق القومية، وبين وضعهم في الضفة الغربية المحتلة حيث الاحتلال العسكري والاستيطان الزاحف وجدار الفصل العنصري والطرق الالتفافية وحيث تتعرض القدس بشكل منهجي للتطهير العرقي؛ وبين وضعهم في قطاع غزة حيث يعامل كسجن كبير محاصر أرضاً وجواً وبحراً؛ وهناك وضع المخيمات الفلسطينية في لبنان حيث الحرمان من الحقوق الأساسية؛ وهناك وضعهم في سورية حيث يتمتعون بدرجة عالية من المساواة في الحقوق قياساً بلبنان وحيث يعيشون حالة من القلق على مصيرهم إزاء ما يجري راهناً من حراك ضد النظام؛ وهناك الأردن حيث توجد فئة واسعة من الفلسطينيين بدون حقوق المواطنة؛ وهناك الوضع القلق للجوالي الفلسطينية في دول الخليج ووضعها في أميركا الشمالية أو الجنوبية أو أوروبا، حيث تتمتع، بفعل حصولها على المواطنة، بقدرة أعلى على الحراك السياسي والإعلامي والمالي.
والحالة هذه فإن المطلوب من القيادة السياسية التي تنبثق من إعادة بناء المؤسسات الوطنية أن تعمل جهدها من أجل أن تتخاطب وتتشارك مع كل مواقع الشعب الفلسطيني وفق الشرط المحدد لكل منها. الهم الرئيس في الضفة الغربية هو الخلاص من الاحتلال العسكري والاستيطان ووقف مصادرة الأرض والسيطرة على الموارد الطبيعية والاقتصاد والمعابر والفصل عن القدس. وفي قطاع غزة الخلاص من الحصار ومن الفصل القسري عن الضفة الغربية بما فيها القدس. وفي الشتات الخلاص من التسلط الأمني على المخيمات الفلسطينية (وتحديداً في لبنان)[2] ومن القيود على الحقوق المدنية والإنسانية. أما الفلسطينيون داخل الخط الأخضر فيناضلون من أجل إزالة اللامساواة والتمييز والإقرار بحقوقهم القومية. ما يوحد بين هذه المواقع هو نضالها المتكامل من أجل تقرير للمصير تتحدد أشكاله وفق كل محطة ووفق محددات الموازين المحلية والإقليمية والدولية المتغيرة.

 

لكن هذه المهام تحتاج إلى قيادة موحَدة وموحِدة وتتمتع بالشرعية الكفاحية والديمقراطية. ومن هنا الإصرار على منح أولوية لإعادة بناء م. ت. ف. على أسس ديمقراطية تمثيلية، وتطوير الميثاق الوطني (قبل التعديلات التي فرضت عليه) ليعيد الاعتبار للحقوق الوطنية والطبيعية والتاريخية والإنسانية والقانونية للشعب الفلسطيني ولحقه في تقرير المصير وبما يجسد الوحدة النضالية، وإعادة النظر في وظائف السلطة الفلسطينية وعلاقتها بالمنظمة، وتحويلها إلى أداة مواجهة للاحتلال الاستيطاني وتوظيف وجودها لتعزيز قدرة المواطنين على مقاومة المشروع الإسرائيلي الاستيطاني في تفتيت الأرض وتهجير سكانها الفلسطينيين.
نحن بحاجة إلى قيادة سياسية جديدة تملك القدرة والجرأة على استنفار القوة الذاتية الكامنة في الوطنية الفلسطينية ببعدها العربي والإنساني التي أنتجتها وتعيد إنتاجها التجمعات والجوالي والمجتمعات الفلسطينية المختلفة،[3] ولديها الرؤية والحكمة لتدرك ما تختزنه التحولات الجارية في المنطقة من طاقة جديدة داعمة للنضال التحرري الفلسطيني. نحن بحاجة إلى قيادة واعية لحقيقة أن ميزان القوى على الصعيد العالمي والإقليمي متحرك وآخذ في الميل، وإن ببطىء، لصالح قضية الشعب الفلسطيني وحقه في تقرير المصير.

 

يعود فقدان الثقة بالنخب السياسية بشكل عام إلى أحجامها عن مكاشفة الجمهور بالصعوبات والمعضلات التي تعترض طريق إنجاز الأهداف الوطنية، ولأنها أبدت استعدادا لتقديم تنازلات تمس حقوق الشعب الفلسطيني الحيوية، بل الوجودية، ودون استشارته، كما اتضح من "الأوراق الفلسطينية" التي نشرتها قناة الجزيرة في كانون الثاني/ يناير2011. فالتنازلات التي قدمها المفاوض الفلسطيني لحكومة أولمرت الإسرائيلية تمت دون موافقة مؤسسات وطنية مخولة باتخاذ قرارات مصيرية (فهذه غير قائمة)، وتمت دون استفتاء الشعب الفلسطيني بشأنها. وما يسترعي الانتباه هو أنه رغم هذه التنازلات المتعارضة نصاً وروحاً مع البرنامج الوطني الفلسطيني، فإن القيادة الإسرائيلية لم تر فيها ما يكفي للاستجابة لطموحاتها الاستعمارية التوسعية.

 

الحاجة إلى مؤسسة وطنية جامعة

لا يفيد الحديث عن انهيار السلطة أو حلها نتيجة سياسات إسرائيل التدميرية إن لم يتم بناء مؤسسة وطنية لتشكل المركز القيادي الفعلي الذي يتمتع بشرعية وصدقية من جانب مواقع الشعب الفلسطيني المختلفة حتى يكون لهذا الشعب مرجعيته السياسية في حال جرى حل السلطة أو هي انهارت تحت الضغط الإسرائيلي والأميركي والإهمال العربي الرسمي.[4] ولأن المؤسسات الفلسطينية التمثيلية غائبة حالياً بعد أن تقادمت أو فقدت شرعيتها، فلا مناص من إعادة بناء م. ت. ف. بمشاركة كل القوى الفاعلة في الحقل الوطني، وإيجاد التدابير الكفيلة بإشراك ممثلين عن كل التجمعات والمجتمعات والجوالي الفلسطينية فيها. فالمنظمة راكمت رصيداً وطنياً ثميناً لا يجوز التخلي عنه جرياً وراء سلطة منقوصة تقام بإذن من الاحتلال ووفق شروطه. ومنظمة التحرير ما زالت تتمتع باعتراف عربي ودولي واسع ممثلاً للشعب الفلسطيني، وهو رصيد جرى هدره من خلال ترك مؤسسات المنظمة ووثائقها دون تجديد وتطوير وإعادة بناء منذ ما يزيد قليلاً عن عقدين من الزمن. ومنظمة التحرير المجددة على قاعدة التقاء وتوافق قوى وطنية عريضة هي الأقدر على طرح إستراتيجية مقاومة متعددة المسارات والأشكال وفق شرط كل موقع فلسطيني وظرفه. وهي الأقدر على تحديد متى تكون الظروف جاهزة للتفاوض وبأية مرجعيات، وغير ذلك. إن هذا هو المدخل الذي لا مفر منه الذي يضع النخبة السياسية على طريق الخروج من مأزقها، والحركة الوطنية الفلسطينية من أزمتها.

ما دار في هذا البحث هدف إلى إلقاء الضوء على وضع النخبة السياسية الراهنة، ولم يتطرق إلى وضع النخبة الاقتصادية، وإن شهدت سنوات أوسلو تداخلاً بينهما، ولم يتطرق إلى وضع النخب الاجتماعية، كلاهما بحاجة إلى أن تسلط عليها الأضواء. وهناك النخبة الثقافية المطالبة بتحمل أعباء تعثر النخب السياسية (والاقتصادية والاجتماعية) بعد انسداد الأفق أمامها ودخولها في وضع رث تنقصه الولاية الوطنية والثقة الشعبية.

لكن لا يكتمل الحديث إن لم يفتح المجال أمام تسليط الضوء على آراء ورؤى وتصورات ومعاناة من هم ليسوا من النخبة، أي الاستماع إلى فئات الشعب في حياتها اليومية ومشاغلها الحياتية والوطنية بكل ما تتمتع به من اختلاف في النوع الاجتماعي والطبقي والمهني والتعليمي والعمري والفكري والديني، والموقع السكني، وغيرها. لقد انتقل مفهوم "الشعب" في التاريخ العربي الحديث من تعبير عن أداة مقاومة ضد الاستعمار، وعن مطالب لاستعادة حقوق مجتمعية مسلوبة، إلى مفهوم يركز على كون الشعب هو مصدر الشرعية، وأنه هو أداة لصنع التاريخ مباشرة، ولا يحتاج،  في لحظة تاريخية حاسمة، لمن ينوب عنه في ذلك.[5] ومن هنا كانت صرخة المنتفضين في الساحات العربية تبدأ بـعبارة "الشعب يريد..". هذا لا يقلل من الاختلاف بين شرط الشعب الفلسطيني وبقية الشعوب العربية، واختلاف شكل الانتفاضات بينه وبينها، كما لا يقلل من دور الأحزاب السياسية والاتحادات القطاعية والنقابات العمالية والمهنية والحركات الاجتماعية فجميع هذه تبقى أدوات هامة جدا في صنع التاريخ وتغيير الأنظمة السياسية والاجتماعية.[6]

ربما يعني هذا أن انتفاضة الشعب الفلسطيني القادمة ستكون ذات خصوصية مستندة إلى تجذّر الوطنية الفلسطينية بروافدها المتعددة، وفي إدراكها أنها تواجه دولة استيطانية استعمارية دخلت طور التحول إلى الفاشية والتهيؤ لاستكمال عملية التطهير العرقي التي مارسها قادتها الأوائل في النكبة. وهي انتفاضة قد تجد نفسها في مواجهة نخبة سياسية لم تعد قادرة على التجديد ولا على تمثيل شعب يريد استكمال نضاله التحرري، فيما تهدد هي بالتنحي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

[1]  ذكر عضو اللجنة المركزية لحركة فتح الدكتور نبيل شعث لوكالة معا الإخبارية أن تقارير البنك الدولي ومؤسسة النقد الدولي تشير إلى حاجة السلطة الفلسطينية إلى معونات طارئة هائلة وفورية لتجاوز أزمة العجز الذي يقدر بمليار ومائة مليون دولار، مؤكدا أنه "لم يعد بإمكان الحكومة الفلسطينية أن تقترض من البنوك لان البنوك ستكون في حالة خطر أيضا، مطالبا الدول المانحة أن تدفع فورا مساعداتها للسلطة"، واعتبر أن " الأزمة القادمة عبارة عن ضغط سياسي من جانب الولايات المتحدة وحلفائها وإسرائيل وأصدقائها  من اجل ألا نقوم بخطوات سياسية مثل التوجه للأمم المتحدة وأن نقبل خطوات الاحتلال والاستيطان بصمت" (وكالة معا الإخبارية،18/3/2012).

           

 

[2]  أنظر/ي على سبيل المثال: مهند عبد الحميد، "محنة الفلسطينيين في لبنان: مخيم عين الحلوة نموذجا"، الأيام، 20/12/2011.

[3]    هناك حاجة إلى كتابة وحفظ تاريخ المقاومة الغني بأشكالها المختلفة التي اعتمدت من قبل مكونات الشعب الفلسطيني على مدار العقود الخمسة الأخيرة ضد إسرائيل كدولة استعمارية استيطانية إقتلاعية، ولفرض العزلة الدولية على ممارساتها العنصرية والتمييزية وضد الوصاية والإخضاع والتجويع. ويأتي في هذا السياق نضال الشعب الفلسطيني داخل الخط الأخضر ضد مصادرة الأراضي (ممثلاً بيوم الأرض) وضد التمييز العنصري والحرمان من الحقوق القومية، وإطلاق الرصاصة الأولى في أول العام 1965 إلى معركة الكرامة، ومئات العمليات الفدائية، ومواجهة الغزو الإسرائيلي للبنان وحصاره لبيروت، وتصدي المخيمات للحروب العدوانية عليها، ومجريات الانتفاضة الأولى والثانية، وصمود قطاع غزة ضد الحرب الإسرائيلية في أواخر العام 2008 وأوائل 2009، وحركات مقاومة الجدار والاستيطان، والحملة الشعبية لمقاطعة البضائع الإسرائيلية، وحملة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها عند انطلاقها في تموز/ يوليو 2005. وأشكال مجابهة التمييز العنصري ضد الفلسطينيين في إسرائيل، والحراك في الشتات (داخل وخارج المخيمات). وهذا أمر يبدو في غاية الأهمية أمام محاولات تهميش التاريخ النضالي المقاوم الغني جدا للشعب الفلسطيني.

[4] أعرب عزام الأحمد، عضو اللجنة المركزية لحركة "فتح"، في تصريح أوردته وكالة معا الإخبارية بتاريخ 1/12/2011 عن مخاوفه من انهيار السلطة إذا ما واصلت إسرائيل إجراءاتها العدوانية من احتجاز أموال الضرائب والقيام بعمليات اقتحام المدن والمحافظات الفلسطينية. ونُقل عن رئيس السلطة الفلسطينية (محمود عباس) قوله بأنه يرفض أن يكون سعد حداد جديد. واستطرد قائلاً بأن "السلطة تنهار إذا انتهت عوامل بقائها من انسداد عملية السلام وعدم احترام اتفاقية السلام. وإذا ما انهارت السلطة، فان أميركا وإسرائيل هما اللتان تتحملان مسؤولية ذلك".

[5]  أنظر/ي: محمد بامية، "اللاسلطوية وثقافة الثورة"، جدلية، 25/11/2011.

[6]  حول هذه النقطة أنظر/ي: جميل هلال، "فلسطين وإيقاع الانتفاضات العربية"، السفير - بيروت، 25/7/2011.

 

*(الفصل الختامي من كتاب "إضاءة على مأزق النخبة السياسية الفلسطينية" لعالم الاجتماع جميل هلال الذي صدر حديثا في بيروت عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية)