عندما يهجر أهل اليسار منازلهم

بقلم: 

 

لا اسعى هنا لتحليل ظاهرة،أو لتعرية أحد ،أو للتقليل من شأن أي كان، فقد حلل الكثيرون الظاهرة ولعل على رأسهم العم لينين بسكسوكته الصغيرة، في كتاباته الشهيرة عن الانتهازية اليسارية، والتي كان مطلوبا منا ان نحفظها عن ظهر قلب، في حلقات الدروشة الحزبية في تنظيماتنا اليسارية الفلسطينية المتحولة حديثا الي الفكر الماركسي اللينيني بعد ان خلعت عنها رداء الافكار القومجية. كان حفظ كتاب " مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية" من اهم برامج التثقيف الحزبية حينذاك، وكنا كثيرا ما نتعرض للتوبيخ من مسؤولي الخلايا لعدم فهمنا الدقيق للكتاب او لممارساتنا التي سرعان ما كان يتم وصمها بالبرجوازية الصغيرة او اليسارية المغامرة كشتيمة يلقيها هذا المسؤول او ذاك في وجهنا لتقريعنا. ودون الخوض في تشعبات عدة حول تلك الفترة، الا انني يمكن ان اجزم ان جلنا كان من منابت برجوازية صغيرة ولهذا كنا سرعان ما نختبئ عندما نقع في الخطأ، ونصبح كالفئران عندما تقع في المصيدة بانتظار القط ومن سيُلتهم منا بتوبيخاته. وكنا في حينها فراخا صغيرة لم ينبت الزغب في وجوهنا بعد، فكان من السهل وضع اللجام في اعناقنا وتسيرنا كما يجتهد رب الخلية الذي لا ترد له كلمة، فهو المنزه عن الخطأ والعليم الحكيم. كنا كالحصان حين يوضع له اللجام لا نبصر الا ما اراده رب البيت لنا، ولم نكن عندئذ قادرين علي التلصص للاعلى لرؤية القادة الكبار والبذخ الاسطوري الذي يعيشون فيه، كأنهم ليسوا اصحاب الفكر البروليتاري وانما سليلو المهراجات، فكانوا، ومازالوا، يرفلون بين الخدم والحشم، والحراسات والفتيات الجميلات، يرتدون افخر الثياب وتفوح منهم اطيب الروائح ويسكنون افخم الفلل. بينما نتكدس نحن في بيوت الطلبة او القواعد منتظرين الالهام الرباني الي اي مهتلك فيه سنسير. منا من سيّر للحروب القبائلية الصغيرة وحروب الزواريب فقضي شهيدا وبات اسما ملصقآ علي بوستر في الزقاق الذي استشهد للسيطرة عليه، ومنا من اعطب او جن او بات بحاجة لمصحة نفسية لمعالجته من الف علة وعلة. ومنا وهنا الاهم من كان ذكيا واستطاع فك اللجام مبكرا ومد رقبته الصغيرة للاعلي وحلم بان يصبح من اهل الحظوة ويجلس منازل الكبار. هؤلاء باتوا عيون السلطان ولسان حاله بين الصغار، والطريف انهم كانوا فرسان الجملة الثورية كما وصفهم العم لينين، فكانوا الاسرع في نقدنا، والابلغ في تفسير الايات المنزلة من القادة الكبار، والاشرس في خوض المعارك الكلامية والهجوم على بقية القبائل الفلسطينية حينما يحتدم الصراع سياسيا او عسكريا، فيعلو صوتهم ويصل صراخهم الى اقصي السماء، متخندقين وراء مواقف القيادة وحاملين سيوفهم الكلامية لقطع اعناق بقية القبائل المختلف معها. وكان البعض منا قد بدء ينتبه الي حالة الفصام التي تعيشها الفصائل والاحزاب اليسارية الفلسطينية والتي لا تختلف عن ما تعيشه الاحزاب الشيوعية العربية. فقد كان الجميع يمر بازدواجية خطاب واضحة، هجوم علي الامبريالية والانظمة الرجعية والاحزاب اليمينية البعيدة والتي لا تحكم البلد المتواجد فيه هذا الحزب، وفي الوقت ذاته محاباة للاحزاب البرجوازية الحاكمة في بلدانها المقيمة فيها،كما بدأ قسم يتلمس الخلل ما بين التنظير للبروليتاريا وحالة الفساد والترهل التي تعيشها القيادات المتربعة علي سدة هذه الاحزاب، وتحويل الاحزاب الي عزب خاصة للقيادة. وهذه الازدواجية كانت انعكاسا ملموسا للانتهازية السياسية والفكرية التي تعيشها هذه القوي وقياداتها. في حينها كنا بدأنا في التساؤل عن صحة التحالف المطلق ما بين احزاب اليسار والبرجوازية الصغيرة والتي نظر اليها مطولا في الحقبة السوفيتية وفي العديد من البلدان العربية تحت اسم الجبهات الوطنية. لم يكن النقد موجها ضد مبدأ التحالف نفسه وانما ضد شكل التحالف الممارس علي الارض. ففي الدول العربية بنيت الجبهات بين الاحزاب القومية والبرجوازية من جهة والشيوعية من جهة اخرى ولكن بقيادة الاحزاب القومية واستنادا لبرامج هذه الاحزاب وتصوراتها الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، والطامة الكبري ان الاحزاب الشيوعية حرّم عليها تحريما مطلقا انتقاد الدولة او الحزب الحاكم وهكذا بقي الوجود الشيوعي اشبه بخرزة زرقاء لدرء الحسد او لاستجلاب المساعدات وعقد الصفقات مع الاتحاد السوفييتي، وهكذا تم لي عنق المفهوم اللينيني في التحالف بين الطبقات وشروطه التي في المقدمة منها قيادة الطبقة العاملة له لصالح الشكل المشوه المطبق علي الارض في العديد من الدول العربية. كان البعض منا يرى ان نهاية هذه الجبهات لن تكون الا انتحارا جسديا وفكريا لاحزاب شيوعية ستتخلي عن برامجها الطبقية لصالح البرجوازية المسماة وطنية، وتصفية في نهاية المطاف لها ما ان تنتهي مصلحة الدولة والاحزاب البرجوازية في هذا التحالف او تصطدم مع الاتحاد السوفيتي وتعاديه..في حينها نُظر فلسطينيا لمبدأ الجبهات هذا واعتبر ان التحالف مع فتح علي ارضية برنامج وطني مشترك هو الاساس في عمل اليسار الفلسطيني، وغُيب عن وعي القاعدة ان هذا التحالف تم، كما هو الحال في الجبهات الوطنية العربية، تحت قيادة برنامج البرجوازية الوطنية السياسي والاجتماعي والفكري، مع فارق عن البلدان العربية ان النقد كان مسموحا به وان كان ضمن حدود معينة، وفي حال تجاوزها كان يتم اللجوء الي حروب الزواريب بين رفاق السلاح لحسم الخلاف واعادة اصحاب الصوت العالي في النقد الي رشدهم. يمكن القول ان مثل هذا التحالف وبالشكل والشروط التي كان يتم بها قد ساهم في نمو الانتهازية السياسية في اطراف اليسار وانتقال عدوي الانتهازية علي الصعيد الشخصي لتشمل كل الفصائل من اليمين الي اليسار دون استثناء. ومع سعي الجميع للسباق والانتفاخ الحجمي والعددي والتسابق لاحتلال المركز الاول من حيث حجم القاعدة، والتي احتلتها فتح دون منازع، باتت فصائل اليسار تتناحر لاحتلال المركز الثاني في الترتيب الحجمي وليس بالتأثير السياسي والاجتماعي والفكري، وهكذا اصبحت شروط عضوية هذه الاحزاب والفصائل شكلية فالمهم التحول، وتحت غطاء نظري لينيني، الي احزاب جماهيرية. هذا الامر ادي الي انتشار افقي لهذه القوي و تفريغ واسع للاعضاء وفتح مكاتب واختراع اسماء منظمات جماهيرية ملحقة بها. ومن كان يزور مكاتب هذه الفصائل كان يلمس حجم المتفرغين ماليا وبالوقت نفسه اقتصار القاعدة علي هؤلاء المتفرغين واقاربهم وعائلاتهم وحمولاتهم في احيان كثيرة. الامر الذي ادي الى ان يصبح التفرغ هو مقياس الولاء، وبات التفريغ سلاحا بيد القيادة للامساك بيد من حديد بقواعدها التي وجدت فيه حلا لمشاكلها المالية الكبيرة. وبهكذا سياسة تنظيمية داخلية فتح الباب واسعا للانتهازية علي الصعيد الداخلي، خاصة ان الامر لم يترافق مع بناء افقي للكادر.