في دلالات الانتخابات الإسرائيلية: لقاء بين الميول الحداثية و الهمّ القومي

بقلم: 

 

 

كتب كثيرون عن الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، ولا حاجة لإعادة طرح كل معانيها، إلا أن السلوك السياسي لبعض الأحزاب خلال تداول إقامة الائتلاف الحكومي، له بعض الدلالات المهمة، كونه يعكس ظواهر مركزيةً في المجتمع الإسرائيلي ما زالت كامنةً في الحراك السياسي ولم تطْفُ بشكل واضح على السطح.

 

إن إحدى النتائج المقلقة للانتخابات هو الائتلاف غير الرسمي -ولكن القوي- بين قائدين لحزبين جديدين–قديمين، وهما يائير لبيد رئيس حزب «يش عاتيد»، ونفتالي بينيت رئيس حزب «البيت اليهودي». هذا الائتلاف يعكس أحد التحولات الجارية في المجتمع الإسرائيلي بشكلٍ كبير، وهو تصاعد قوة الطبقة الوسطى المعولمة، التي تحاول أن تمزج بين إيمانها العميق بالدولة اليهودية المتطورة تكنولوجياً، والقوية عسكرياً، والقادرة على أن تفرض إرادتها على محيطها بالقوة، وبين عولمة الدولة اليهودية وإظهارها على أنها جزءٌ من العالم الغربي المتطور، الذي «يعاني» تهديدات قوى متطرفةٍ آخذة بالتصاعد في العالم. إن المزج بين أسماء الحزبين تنطوي على دلالاتٍ عميقةٍ تعكس مقولةً مركزيةً حول مستقبل المجتمع الإسرائيلي ورؤيته السياسية، وهي: إذا كان هناك مستقبل، فهو بيتٌ يهودي.

 

إن افتتاح يائير لبيد حملته الانتخابية في مستوطنة «أريئيل» المقامة على الأراضي الفلسطينية المحتلة، يصب في موقف نفتالي بينيت، الذي يدافع عن الاستيطان والمستوطنات، ويريد من الحكومة المستقبلية أن تنعى حل الدولتين والمضي قدماً في فرض الإرادة الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني، من خلال تفريغ عملية إقامة الدولة الفلسطينية من أي مضمونٍ حقيقي، وجعل هذه الدولة -في حال لم تستطع الحكومة الإسرائيلية منع إقامتها- مفرغة السيادة.

 

من جهةٍ أخرى، كون نفتالي بينيت رجلاً ذا خلفية في عالم الحاسوب والمعلوماتية، ومتديّناً مع إيمانٍ عميقٍ بحق شعب إسرائيل على كل فلسطين التاريخية، وكونه أيضاً يركز على أخوية الشعب اليهودي من دون فارقٍ، فهذا يدل على أن مشروعه السياسي ورؤيته الأيديولوجية يتماشيان مع توجهات حزب لبيد، الذي صرح أكثر من مرةٍ بأنه يتعلم التوراة منذ زمن، وذلك بأن هوية الدولة اليهودية تشكل قاعدةً أساسيةً في رؤية حزبه، وبأن هاجسه الأقوى هو توفير فرصٍ للإسرائيليين كي ينجحوا في حياتهم كما نجح بينيت.

 

هذا الائتلاف الذي أتى لأسبابٍ سياسيةٍ هدفها فرض أجندةٍ تتعلق بقضية «تقاسم العبء»، هو دلالةٌ واضحةٌ على أن التوجه المهيمن في المجتمع الإسرائيلي هو الهم الداخلي، وترتيب شؤون البيت لتحديد هوية المجتمع المستقبلية. إن عدم تداول معنى «العبء» ومن يحدد مضامينه، واقتصار النقاش حوله على المجتمع اليهودي، هي أمورٌ تشكل دلالةً إضافيةً على توجهات قيادات الطبقة الوسطى الأشكنازية في المجتمع الإسرائيلي، التي تُعنى بهمومٍ مصلحيةٍ بعيدةٍ كل البعد من قضايا العملية التفاوضية وحل الصراع الإسرائيلي–الفلسطيني، وقضايا الفقر والإفقار الحقيقية في المجتمع، وقضايا المواطنين العرب ومساواتهم بالمجتمع اليهودي.

 

مصطلح «العبء» يعود إلى رؤيةٍ جمهورانيةٍ محافظةٍ تضع «الصالح العام» قيمةً أساسيةً في المجتمع، وتحول الولاء الوطني ومدى العطاء لهذا الصالح، من خلال الخدمة العسكرية والانخراط في سوق العمل ودفع الضرائب، مقياساً أساسياً للانتماء والهوية المجتمعية. إن الدمج بين مواصفات ودلالات حزبي لبيد وبينيت، التي توصي بالتقدم والتكنولوجيا والعولمة والثقافة الأوروبية الغربية الأشكنازية، وبين دلالات مصطلح «العبء» الذي يعود للفكر القومي–المحافظ، هو انعكاسٌ للرؤية الأيديولوجية المهيمنة في إسرائيل. وبالرغم من التناقضات الظاهرية القائمة في المجتمع الإسرائيلي بشكلٍ عام، إلا أن الانتخابات أفرزت منظومة الأخلاق الأساسية المقبولة بشكلٍ واسعٍ، فباتت المنظومة الوطنية–الدينية-المحافظة بغطاءٍ تكنولوجي حداثي مُعَوْلَم، وبقيادة جديدة تعيد صياغة الهيمنة الأشكنازية على السياسة الإسرائيلية.

 

إنها المنظومة التي تدمج بين المستوطن الذي ينهب الأرض ويعتدي على الأملاك، وبين الإعلامي الذي يُعنى بالمصالح الضيقة للطبقة الوسطى، والتي همها الأساسي هو تحسين مستوى معيشتها، حتى لو أتى ذلك على حساب قطاعاتٍ واسعةٍ من الفقراء والمنسيين في المجتمع، خصوصاً العرب والمهاجرين من أفريقيا. هكذا كانت الحال على الأغلب في تظاهرات صيف 2011، إذ وبالرغم من أن الشعار الأساسي للتظاهرات كان «الشعب يريد عدالة اجتماعية»، إلا أن المقولة الأقوى للتظاهرات كانت أنها ليست سياسيةً، وتفترض وجود شعبٍ متآخٍ في الهوية والأعباء القومية.

 

إن الائتلاف القائم بين لبيد وبينيت هو دلالةٌ إضافيةٌ على نجاح ائتلاف نتنياهو-ليبرمان في إزاحة الكثير من الموضوعات الشائكة من الأجندة السياسية، خصوصاً تلك المتعلقة بحل الصراع الإسرائيلي–الفلسطيني، والانشغال بما هو داخلي، وهذه دلالةٌ واضحةٌ على أن السياسة الإسرائيلية باتت مقتنعةً بأن التهديدات الخارجية غير وجوديةٍ، رغم أقاويل رئيس الوزراء، وبأن القضية الإيرانية مادةٌ استهلاكيةٌ للإعلام من أجل إزاحة الأنظار عن قضايا شائكةٍ أخرى.

 

لبيد وبينيت هما مزيجٌ من اتجاهاتٍ تشكل معادلةً تعكس الهوية الإسرائيلية الحالية، التي تريد أن تعيش حياة رفاهيةٍ متقدمةٍ، حتى في المستوطنات، ومن أجل ذلك عليها أن تكون متطورةً تكنولوجياً ومعولمةً اقتصادياً. هذه العوامل من شأنها أن توفّر للدولة اليهودية القدرة على فرض إرادتها على محيطها، من دون دفع ثمنٍ يهدد الحلم الإسرائيلي أو يخدش مصداقيتها أمام نفسها وأمام العالم الديموقراطي. لهذا فإن نتائج الانتخابات هي مرآةٌ للهوية الإسرائيلية الجديدة الآخذة بالتبلور، والتي تبحث عن توازناتٍ «معقولةٍ» تمكِّنها من توفير غطاءٍ أخلاقي لواقعٍ فيه الكثير من الغبن والفساد والقمع والاستغلال.

 

هناك من اعتبر الانتخابات الأخيرة عملية تصحيحٍ لسياساتٍ تميزت بها حكومة نتنياهو الحالية، إلا أن الدلالات المنعكسة في الائتلاف المذكور تؤكد أن هذا التصحيح لا يعني تغييراً في الجوهر، وإنما هو تبدلٌ في المظهر.

المصدر: 
الحياة