فلسطـين: الحضـور والغيــاب في المجتمعات العربية

بقلم: 

 

كانت فلسطين دائماً هي قضية العرب الأولى، واعتبرت القضية الفلسطينية قضية عربية، وصيغت العشرات من البرامج السياسية التي كانت فلسطين في قلبها. ودائماً كانت العروبة شعورًا وهويًة وخطاباً وممارسًة مرتبطة بفلسطين وقضيتها. تسعى هذه القراءة لفهم مكانة فلسطين وقضيتها وعلاقتها بالخطابات اليومية والخطابات الأيديولوجية المُؤسِسَة في «الانتفاضات» و«الثورات» العربية المعاصرة وفهم آليات تشكل الخطاب ومرجعياته وأشكال التعبير عنه.

لقد كانت القضية الفلسطينية حاضرة على الدوام في الخطاب العربى من خلال الشعار والممارسة، حيث انخرطت مجموعات كبيرة من الجماعات العربية مختلفة المشارب والأصول وغير المتجانسة سوسيولوجيا في الدفاع عنها وتبنيها باعتبارها قضية عربية، وسقط آلاف المقاتلين العرب (من المتطوعين وأفراد الجيوش الرسمية) في الحروب الرسمية التي خاضتها دول ما بعد الاستقلال في حروب 1948 و1967 وفي 1973، أو من خلال مشاركة آلاف من المتطوعين والمقاتلين في الدفاع عن فلسطين. وكم وجدنا آلاف المواطنين العرب شُغلوا بقضية فلسطين، كتابة ومسرحا وشعرا من خلال التعبيرات الفنية المختلفة، والتي كانت قضية فلسطين محورها. وكذلك اندمجت مجموعات كبيرة من الفلسطينيين في أحزاب عربية متنوعة الرؤى في خضم الصراع مع الدولة الاستعمارية «إسرائيل». كما بقيت فلسطين وقضيتها تحتل مكان الصدارة في اهتمامات الباحثين والدارسين في المراكز البحثية والدراسية العربية. وكان ذلك الاهتمام يتصاعد مع ازدياد بطش المشروع الاستعماري بالفلسطينيين، وبالتوازي مع توسيع رقعة الاعتداءات «الإسرائيلية» وحروبها وغاراتها التي كانت تتوسع ضد الدول العربية مثل مصر وتونس والسودان والعراق ولبنان وانتهاء بسوريا، ما أبقى القضية الفلسطينية ومعها الصراع مع «إسرائيل» صراعا عربيا/ إسرائيليا. وللإشارة، عند النظر إلى ضحايا الصراع مع الاستعمار «الإسرائيلى»، فإن عدد الضحايا العرب من غير الفلسطينيين يفوق رقميا الفلسطينيين أنفسهم (ضحايا الغارات في الأراضي العربية مثل مصر ولبنان وشهداء الدوريات العرب والفدائيون العرب). إضافة إلى انخراط مناضلين عرب في أحزاب الثورة الفلسطينية بل وقيادتها.

 

انبعاث هوياتي جديد

 

مع بدء سيرورة استعادة جزء من الجماهير العربية حقها في التعبير في الفضاء العام وتملكه، ومع انطلاق الثورات على النظم الاستبدادية العربية، تحركت مجموعات شبابية فلسطينية رأت في هذا الحراك العربي الجديد، إعادة الاعتبار لهويتهم العربية ولذواتهم. وكان قوام هذا الحراك شباباً فلسطينيين لا تجمعهم علاقات تواصل فيزيائية مباشرة مع إخوانهم العرب، رأوا في هذه الحراكات والانتفاضات العربية انبعاثًا هوياتياً جديدَا وتوكيداً «عروبيا جديدا». هذا التماثل المجتمعي الفلسطيني مع الحراكات الاجتماعية العربية الحالية لا يُصنف في سياق استعادة الفكرة القومية، ولكن يمكن القول إنه إعادة اعتبار لفكرة القومية باعتبارها ضرورة ملحة لمجموعات كبيرة من أفراد الشعب الفلسطيني المنعزلة فيزيائيا عن عمقها العربي. وهي تشكل مصدر اختبار لتيارات «الفلسطنة» التي اعتقدت أن قيام الدول الوطنية» القطرية» ما بعد الاستقلال قد قوض حلم المشروع الوحدوي العربي. ومن الواضح أن الحراكات الحالية في الضفة الغربية وقطاع غزة وفي المجتمع الفلسطيني في فلسطين 1948 وفي الشتات تعيد بلورة خطاب قومي جديد يتعايش مع الخصوصيات العربية المحلية والتي من الجلي أن قضية فلسطين كانت ولم تزل هي قضية العرب الأولى فيه؛ حتى وإن سادت خطابات رسمية مُهمشة، وخطابات أخرى تستحضر مكونات أخرى كالدين ليحل محل العروبة، أو قد يتكامل معها؛ لأن التداخل المحلي - القومي في الثورات العربية الحالية يعطي روحا جديدة متجددة.

تستدعي عملية انتقال «الثورات» العربية و«الانتفاضات العربية» من دولة عربية الى أخرى مجموعة من الفرضيات ترتكز بعضها على وجود أياد خارجية (المؤامرة)، أو تعتمد على تفسيرات ذات توجه استشراقي تعتقد أن الجماهير العربية بحكم ثقافتها لا تنسجم مع الديمقراطية (ثقافوية) أو لم تتحضر لها بعد، أو تستحضر مبررات أخرى نظرية مثل «غياب أيديولوجية»، وغياب الشروط اللازمة لحدوث الثورة... الخ. قد يكون من المجدي النظر إلى منطق المحاكاة عند تناول ظاهرة انتشار الحدث، والذي قد يفسر سبب انتشار «الثورات العربية»، أي انتقال الحدث ومحاكاته من دولة لأخرى بدءا بتونس، حيث لم تتأثر المنطقة العربية بثورات اجتماعية أخرى في العالم (أوروبا، أميركا الجنوبية)، ويعود ذلك إلى دلالة البعد الجغرافي/ الثقافي ( القواسم المشتركة في اللغة والثقافة والشروط وتشابه بعض أشكال النظم السياسة والشعور الذاتي بالمشترك في الوعي والوجدان العربى العام). وتظهر لنا دراسات هوبسباوم عن الثورات أن هذا التبرير ليس حكرا على المجتمعات العربية، حيث يتبين لنا أن غالبية الثورات والانتفاضات التي وقعت في التاريخ الإنساني المعاصر تقوم على مبررات مشابهة مرتبطة بمنطق المحاكاة المرتبط بالتشابه. ويظهر منطق المحاكاة من خلال الشعارات المتناقلة من تونس لمصر لليبيا الخ.. مع صبغها بنكهات محلية أحيانا. كما تظهر تعبيرات الصراع العربي ـ الإسرائيلي في الميدان من خلال بعض الشعارات في مصر وتونس وليبيا واستخدام القضية الفلسطينية باعتبارها قضية من القضايا العادلة العربية، وكذلك توظيفها في السجالات القائمة بين القوى المتصارعة، ومدعاة للاتهام وإصدار الأحكام الأخلاقية على مجموعات معينة، حيث يتم وصف الفرقاء والشخوص بالعمالة لعدو الأمة الأوحد وحليفتها أميركا. ويبدو هذا جليا في النقاشات الحادة التي تخوضها جماعات ضاغطة في العالم العربي ضد التطبيع ومحاولة سن قوانين لمنعه في مصر وتونس والمغرب.

 

فلسطين في الخطابات الشعبوية والدينية

 

في المقابل، استخدمت الأنظمة العربية ما قبل 2011 القضية الفلسطينية لكسب الشرعية والمشروعية الشعبية واستحضار خطابات شعبوية ترتكز على فلسطين؛ وبلورة خطابات تبريرية لسياسات اقتصادية واجتماعية وسياسية لبعض الدول العربية؛ معللة ذلك بعدم توافر الشروط الخارجية لعمليات الانتقال الديمقراطية. وتم المس بالحريات العامة والفردية وُمورس القمع والقهر تحت مبررات التحضير للمعركة وتمكين الممانعة؛ أو تبرير الظروف الإقليمية، والتوازنات الخارجية لعدم الدخول في حروب الخ. وكان هذا جليا من خلال هيمنة خطاب دهري/ علماني. ويتكرر المشهد في مجتمعات ما بعد 2011، حيث تعمل بعض السلطات الجديدة على استخدام القضية الفلسطينية كذريعة أو كورقة تفضيلية في سباق كسب الشرعيات المجتمعية لمجموعات واسعة من المجتمعات العربية، والتي كانت ولا تزال تنظر إلى قضية فلسطين على أنها قضيتها.

ومع تصاعد الخطابات الدينية نجد أن ثمة هويات دينية ترتكز على الخصوصية، فتحل تراتبيا على الهوية الجمعية أو تتداخل معها. ويستعير الخطاب الهوياتي الجديد من الدين بعض عناصره المتمثلة في «الحقيقة المطلقة» و«العقيدة الثابتة»، فتصبح الهوية والدين متلازمين. هذا التلازم كما يقول الديالمي مرتبطا بكونهما «تعبيرا عن الحقيقة المطلقة، إذ إن المنطق الداخلي المؤسس لهما يجعلهما يقدمان نفسيهما كمعطيات ما فوق - تاريخية، كماهيات لا تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة». ويمكن أن نجد علاقة لخطابات هوياتية متماهية مع ماهية المطلق الديني الذي يجعل حل القضية الفلسطينية «حلا إلهيا»، وقد يقود البحث عن «هوية طهرانية خالصة» وفوق أي هوية اجتماعية أخرى من خلال اللجوء إلى الدين بسبب تلاؤمه مع سياق فكري أحادي الأبعاد وأساسه الإقصاء، في مسعى لما يسميه الخطيبي بالهوية الأصلية، لأن كل هوية ترتد في النهاية إلى مجتمع الإنتاج المتعين بحدود تاريخية وزمنية مضبوطة، ولذلك فإن الخطيبي يعتبر الحديث عن هوية غير ملوثة، هوية ميتافيزيقية ولاهوتية، غير ممكن، حيث يقول «لا يمكن للهوية الأصلية التي تقوم على الأصول اللغوية والدينية والأبوية أن تحدد وحدها الهوية في العالم العربي». وطبعا أدت التغيرات العالمية وتصاعد الخطابات الدينية ذات التأثير الكوني دورها لتنتج حركات منبثقة عن مطالب الهوية الإثنية والقومية والدينية المنادية بالخصوصية، ما أفرز توجهات كبرى للهوية والمتمظهرة في مختلف أشكال التعصب، وفلسطين أولى المجتمعات التي تأثرت بذلك بشكل كبير، وخاصة مع تراجع قوة الخطاب الدهري/العلماني الذى ادعت التيارات القومية و«العلمانية» قيادته.

 

العقل الجمعي العربي

وخصوصيات اليومي المحلي

 

إن المتتبع للتعبيرات التي أطلقتها الجماهير العربية في شوارع الانتفاضات والميادين والساحات العامة عن «الحرية» و«الكرامة» وغير ذلك، يجعلنا نفهم آليات عمل البنى الاجتماعية الثقافية لإنتاج اليومي العربي الجديد وعلاقة ذلك بالاستعارات المختلفة من المحددات الأيديولوجية بأشكالها المختلفة الدينية والعلمانية والحداثية الخ، وتأثيرها على العقل الجمعي العربي بخصوصياته المحلية وعلى الوجدان الجماعي العربى من خلال فهم تشكيلاتها ومرجعياتها وآليات عملها. ونلحظ أنه في الحياة اليومية العربية يتم التعبير عن الضغوطات اليومية والنزعات والتغيرات الأيديولوجية أيضا. وعند رصد العناصر الأساسية المكونة لبنية الخطاب الأيديولوجي، سنجد أن الأخيرة تركز على المصلحة الاجتماعية «المحلية المطلبية»؛ أي استدماج المعيش اليومي «الضيق» الحيواتي مع الخطاب المنخب؛ وسنجد خطابات تتقاطع وخطابات أخرى تحدث القطيعة معه في قضايا/ شعارات (الحرية والمساواة والعدل والخبز والعمل) وكذلك في قضايا (العروبة والتحرر والقومية والتدين والحريات العامة وشعارات الدولة المدنية، والمحاكمات الشعبية، وحرية الاعتقاد وما يتبعها من حرية التعبير في تحقيق الاستقرار والسلم الاجتماعيين)، كصور منبثقة عن الحراك الحالي لتقدم بدورها، بجمعها مجتمعة، قراءة جديدة يطغى عليها الانغماس الآني في المحلي والقطري والانعزالي والطائفي والمذهبي. ولا تخلو الخطابات السياسية لقوى ما بعد 2011 من قراءات وتحليلات «متمذهبة» و«مقنّعة» بمختلف أنواع الشعارات الوطنية والمحلية والدينية والقومية التي توظف لمصلحة الاصطفاف الذي لا يزال فاعلاً في علاقات القوة لأحزاب السلطات الجديدة في مصر وتونس وليبيا، ويدفع باتجاه انقسام يتخطى البعد السياسي والصراع على السلطة ليطال جوانب أعمق وأبعد من ذلك تتعلق بإعادة إنتاج وتوزيع السلطة وتوازناتها. ومع تغير طبيعة الخطابات تتغير معها الهويات المحلية. ويظهر في بعض الحلقات المجتمعية تغليب الولاءات الجماعاتية على الولاءات الفردية، ويعود ذلك لعوائق ذهنية مرتبطة بطبيعة النظم السياسية لما قبل 2011 والتي ارتكزت على تهميش المشاركات في صنع القرارات الرسمية العربية. من المؤكد اننا لا ندعى وجود نموذج واحد لجميع «الثورات العربية» أو الانتفاضات أو النزاعات المسلحة نرتكز عليه في التحليل، وذلك لأن هشاشة الانتفاضات وتغيراتها الدينامكية متبدلة بحسب التغيرات المتسارعة وارتباطها بالصراع بين المكونات الاجتماعية التي تحاول إعادة رسم الخريطة الاجتماعية والسياسية لكل بلد عربي؛ تارة عبر خلق تحالفات «طائفية» أو «جهوية»، وتارة عن طريق استحضار لخطابات «وطنية طهرانية»، وتارة أخرى من خلال التركيز على البعد السياسي للدين في مقاومة التفاوت الاجتماعي الداخلي، ومقاومة أشكال «الغزو الثقافي».

تعيش هذه المجتمعات حالة توتر وتمزق بين ديناميتين موضوعيتين كبيرتين تتجاذبان وتخترقان كافة مستوياتها وقطاعاتها: بين «المحلية» و«القطرية»، والقضايا المطلبية المرتبطة بالمواطن وحقوقه، وبين القضايا العربية الأساسية وعلى رأسها قضية فلسطين. وتتعايش فيها خطابات تحويل أساليب الحكم وعلاقة السلطة بالمواطن ومستلزمات نقلها من إطارها التقليدي القبلي، أو العرقي، أو الولاء الثقافي، إلى أسلوب حكم عصري يقوم على المحاسبة والمراقبة والانتخاب والتمثيلية التحتية والتعاقد والدستور والانتخاب الحر وحرية الرأي والانخراط وإدماج الشباب والاندماج...الخ. صحيح ان الأسس الجديدة التي فرضتها «الثورات» و«الانتفاضات العربية» تحتوي على أساس مهم هو «صعوبة القولبة»، ولكنها لا تعني بالضرورة غياب الأدلجة. ولذا، ستشهد المجتمعات العربية معارك أيديولوجية «تنويرية»، «عقدية صرفة»، لأن جزءا من هذه الخطابات الجديدة يقوم على تبديع الآخر، وإنكار الواقع، ونفي التاريخ. لقد امتزج العنف الدائر حاليا بعناصر التنافس والصراعات الأيديولوجية والجيلية والطبقية والجهوية/ المناطقية والعرقية والحزبية واللغوية... الخ. وهو مرشح للاستمرار حينا لأن الثورات والانتفاضات تحتاج إلى وقت طويل لتحدث تغيرات وتخلق تعاقدات اجتماعية جديدة ولتستنهض أسسا جديدة تقوم على التشاركية والمواطنة لا على المحاصصة. أما فيما يخص حضور القضية الفلسطينية، فهذا مؤهل بدوره للتغير لمصلحة إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية باعتبارها قضية العرب الأولى، ولكن بالتوازن مع القضايا الخاصة بكل بلد.

ولأن عناصر الصراع مع الدولة الاستعمارية «إسرائيل» ما زالت باقية، وستتوسع بحكم طبيعة «إسرائيل» الاستعمارية وحاجتها الدائمة التوسعية وتصادمها الحتمي مجددا بحروب جديدة قد تشنها، فإنه من المرجح أن تتوسع رقعة النقمة ضدها مستقبلا، ما قد يدفع بالخطاب «العروبى» الجديد إلى الواجهة، ويدفع جماعات عربية ضاغطة لإعادة الاهتمام بالقضية الفلسطــينية؛ طبـــعا وفقا لتغيير موازين القوة وفعالية الخطابات وآليات استبـــطانها، والصراعات بين القوى الاجتماعية والسياسية المختلفة في البحث عن حلول للقضايا الملحة لكل بلد عربي وبين تمنيات الوحدة بين النماذج القديمة وبين رؤى جديدة تقوم على استحضار نموذج الاتحاد الأوروبي.

 

* رئيس دائرة علم الاجتماع وعلم الإنسان في جامعة بيرزيت. 

المصدر: 
السفير