... ولقد دق ناقوس الخطر (قراءة في إجراءات الحكومة وتدابيرها ورزمة مقترحات جديدة)

بقلم: 

كان لا بد من هذا العنوان لقرع ناقوس الخطر، فنحن الآن نعيش واقعًا تداعت عليه الأمراض والمحن،  وأصبحنا وجهًا لوجه أمام  وباء فتاك لم تعهده البشرية من ذي قبل على هذا النحو ، وباء يطحن اللحم والعظم والعقل والمال .

فهو أولا يطحن اللحم والعظم ؛ لأن هذا الفايروس إنما يستهدف حياة الإنسان وصحته ، فيهو يتفشى في العالم بسرعة جنونية ، وينتشر انتشار النار في الهشيم، تاركا وراءه ملايين الضحايا ما بين وفيات وإصابات، حتى الآن .

 ومنذ اللحظة الأولى تداركت الحكومة الفلسطينية والرئيس محمود عباس الوضع ، فاتخذت الإجراءات الاحترازية والتدابير الوقائية المبكرة للحفاظ على حياة الإنسان الفلسطيني ؛ والحيلولة دون انتشار هذا الوباء اللعين ، انطلاقا من إيمانها بأن حياة الإنسان هي أغلى ما نملك ، ’وكأنها رفعت شعر (الأرواح قبل الأرباح) ، وأعلنت حالة الطوارئ ، وقيّدت والحركة، والتزم الناس منازلهم .

وهو ثانيا يطحن العقل ؛ لأن هذا الوباء جاء مباغتا للعالم ، فجعله يتخبط خبط عشواء ،  لا يدري كيف سواجه هذا الإخطبوط الوبائي ، وأصبح يئنّ تحت تأثير اجتياحاته المؤلمة ، ويترنح تحت تأثير ضرباته كمن طوّحته قنبلة ؛ مما أذهل الجميع وأفقدهم صوابهم ، ومع انتشار الشائعات والتهويل أصبحت البشرية  تعيش في أجواء مرعبة ، فساد الرعب، وعم الذعر،  واختلط الحابل بالنابل .

إزاء هذا الحدث فقد أحسنت الحكومة صنعًا حين عملت على توحيد مصادر المعلومات ، ودعت لوأد الشائعة في مهدها، وقامت وما زالت تقوم بحملة توعية لمجابهة خطر الشائعة التي تؤدي إلى تعميق القلق والخوف والذعر ، وهو أشد خطرًا ، وأعظم ضررًا من الداء نفسه ؛ لأن العقل  في أجواء الذعر والرعب يتعطل، والدماغ ينشل ، والتفكير يتوقف ، وهو ما نحن  في مسيس الحاجة إليه في ظل هذه الجائحة الوبائية اللعينة .

ورفعت هذه الحملة شعار عدم التهويل ؛ مخافة انتشار الذعر والهلع ،  وعدم التهوين ؛ مخافة فقدان الحيطة والحذر .

وهو ثالثًا يطحن المال ، في إشارة لوقف عجلة الإنتاج . إذ إن هذا الفايروس قد وجه ضربة مؤلمة لاقتصاديات دول العالم فشلها ، وأوقف عجلة الإنتاج وعطّلها . وداهم الاقتصاد الفلسطيني الذي هو أصلا مثخن بالجراح ، ويعاني من مشكلات كثيرة ، ويواجه تحديات كبيرة ، وأزمات حقيقية تعيق مسيرته وتقف حجر عثرة أمام تطوره وتقدمه . فكانت الضربة مؤلمة أشدّ الألم .

وفي هذا المجال تشير المعطيات إلى بطء الإجراءات والمبادرات الحكومية في تحريك عجلة الاقتصاد ؛ ليتمكّن من الصمود في مواجهة متطلبات داء كورونا وداء الاحتلال .

لذا فلا بدّ للحكومة أن تسارع لاتخاذ خطوات اقتصادية جادة ؛ لأن الأزمة المتفاقمة التي يواجهها اقتصادنا سرعان ما تعكس نفسها على جميع القطاعات ، ومنها القطاع الصحي نفسه .

وفي هذا الصدد أتوقع من الحكومة أن تتحلى بالحكمة وبعد النظر التي عرفناها فيها إبان هذه الجائحة ؛ لأن الخسائر الفادحة التي من المتوقع تكبدها نتيجة تعطل عجلة الاقتصاد ، لا تقل في أهميتها عن حالة الإنسان  الصحية .

ولن نحتاج لإمعان فكر كي ندرك أن الحكومة ستواجه نقصًا كبيرًا متوقعًا في مواردها المالية ؛ وهو ما قد يؤدي إلى إغراقها بالديون المتراكمة ، وقد تغرق نفسها في ديون مع دولة الاحتلال أو جهات أخرى قد لا تفوت فرصة سانحة كهذه ، فتستغلّها لفرض هيمنتها على الأرض وفق صفقة القرن .

إننا مطالبون  اليوم -وليس غدًا- بالبدء بإجراءات وتدابير اقتصادية تمكننا من التعايش مع هذه الأزمة وإدارتها بصورة سليمة ، والخروج منها بأقل الخسائر .

وفي هذا الصدد اقترح  القيام بتوسيع  اللجنة الاقتصادية لتشمل القطاعين: العام والخاص، وعلى الحكومة أن تكون أكثر انفتاحًا في ذلك ، إذ من الضروري تطعيم هذه اللجنة بالمؤهلات العلمية وبالدماء الشابة .

ومن الضروري الإشارة إلى أن القرارات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة بتوصية من اللجنة الاقتصادية ولجنة الطوارئ هي غير كافية ، ومقيدة ومحددة في مدن دون أخرى ، وهذا ما سيؤدي إلى إفراغ هذه الإجراءات من مضمونها ، فكيف يمكن إعادة فتح المنشآت والمهن المرتبطة بها ، وهي قد تتجاوز الخمسين مهنة ، في ظل تقييد الحركة بين المدن ؟ وفي ظل التداخل والترابط  في المصالح بين هذه المدن، فكثير المنشآت مقراتها في مدينة رام الله وأعمالها في محافظات أخرى ، كما أن الأيدي العاملة والمهندسين والفنيين فيها موزعة بين المحافظات ؛ مما لا يمكّنها من إنجاز عملها . وكيف يمكن أن تعمل منشأة في جنين مثلا وموردها الرئيسي يسكن في رام الله  التي مازالت تعيش حالة الطوارئ ؟

كما  يقع على عاتق الحكومة قراءة المتغيرات المتسارعة التي تحدث في هذه الظروف ، كميل المواطن إلى التوجه إلى الأرض لاستصلاحها وفلاحتها وزراعتها ، وهذا الميل كنا قد شهدناه إبان انتفاضة عام 1987م .وهو ما يستدعي تحرك وزارة الزراعة لوضع آليات وخطط طموحة تدعم هذا التوجه ، وعلينا ندرك أن ما حققناه من إنجازات في هذا المجال هي غير  كافية ، وأن الخطط التي تقدمت بها وزارة الزراعة لا تصل إلى مستوى الحدث ، وأكاد أجزم أننا ما زلنا نعمل بآيات العمل السابقة، وأن الخطط التي تقدمت بها الوزارة  -التي هي تكرار لنموذج الخطط السابقة- هو دون ما يتوقعه أهل الطموح ، فلا جديد ولا مزيد والشجرة المرة ستبقى ثمارها مرة حتى لو طليتها بالعسل  .

 وإننا ننتظر من هذه الوزارة المزيد ؛ لأن القطاع الزراعي سيكون واحدًا من الأعمدة الهامة التي سيتكئ عليها الاقتصاد الفلسطيني في ظل المشكلات والأزمات التي من المتوقع أن تشتد وتلقى بظلالها علينا .

طي صفحة الانقسام :

لقد عملت الجائحة الوبائية -رغم قسوتها – على إظهار كثير من الجوانب الإيجابية ، فمن المعلوم أن بني البشر إذا شعروا بالخطر يتهدد وجودهم ، فإنهم سرعان ما يتوحدون لمواجهته ؛ لذا نرى الشعب الفلسطيني يهب هبة رجل واحد لمواجهة هذا الخطر المباغت التي داهمنا وداهم العالم من حولنا .

ولأن الشعب الفلسطيني يختلف عن باقي شعوب الأرض ؛ لأنه الآن بات يواجه خطرين مزدوجين هدفهما واحد ، هو إفناء هذا الشعب ، فالأول وهو الكورونا يستهدف حياة الإنسان وصحته ، والثاني يستهدف وجوده ، ويعمل على اقتلاعه من أرضه .

أمام هذا الهول العظيم الناجم عن هذا الوباء ، والظلم المقيم الناجم عن وجود الاحتلال ، فإن الحاجة أصبحت ملحة وضرورية لطي صفحة الانقسام ، لنواجه الخطرين موحدين لا منقسمين . وعلينا أن ندرك أن الانقسام والثقافة الفردية لن تستطيع تحرير قم دجاجة فكيف بها تحرر أوطانًا .

لقد آن الأوان لإطلاق مبادرة لطي هذه الصفحة السوداء في تاريخنا ، فقد طفح الكيل وبلغ السيل الزبى ، وعلينا أن نحاسب أنفسنا قبل أن يحاسبنا التاريخ ذو الحساب العسير .

وإنني أوجه الدعوة إلى منصة الحكومة وفارس منبرها د. إبراهيم ملحم (الذي أكن له كل الاحترام والتقدير) لإطلاق هذه  الدعوة ، وخلق حالة شعبية ضاغطة لاستكمال إنجاز الوحدة المرجوة ، فلا يجب أن تنسينا هذه الجائحة حقيقة أن أمامنا عدوّ يتربّص بنا الدوائر، ويضمر لنا العوائل ، ويكشّر عن أنيابه الجائعات ، فهلموا إلى الوحدة قبل فوات الأوان ؛ لأنني أخشى أن نستيقظ يومًا على حقيقة مفادها : أن العملية نجحت لكن المريض – وا أسفاه-   قد مات .

ملف التعليم :

لقد أثبتت الأحداث انكشاف نظم التعليم ، وعدم ربط العملية التعلمية التعليمية بالتكنولوجيا الحديثة ، وأن ثمة مشكلة تتعلق بعدم التفاهم بين عناصر عملية الاتصال التعليمي التي تشمل المرسل (المعلم) والمستقبل (المتعلم ) والرسالة وقناة الاتصال ؛ وذلك لغياب التوظيف الفعال لوسائل التكنولوجيا الحديثة في العملية التعليمية .

مقترحات  وتوصيات :

  1. الدعوة لفلسطينيي الشتات بعمل صندوق طوارئ خاص بمساعدة الطلبة الفلسطينيين في الشتات، وتقديم الدعم لهم حتى عودتهم إلى ديارهم  .
  2. إعفاء السلع والمواد المتعلقة بتدابير الحماية والوقاية من أية رسوم أو ضرائب ؛ وذلك لخفض أسعارها لتصبح متاحة لكل الفئات والشرائح الاجتماعية .
  3. البدء بعمل صندوق للإقراض الزراعي .
  4. الدعوة لإعادة فتح المنشآت وجميع المهن المرتبطة بها كالمناجر والمحادد ومشاغل الألمنيوم ، ومحلات مواد البناء والأدوات الصحية ، والتمديدات الكهربائية ، ومعامل االباطون والبلاط والكسارات ومصانع الطوب ، وكل المهن المرتبطة بهذا القطاع .
  5. فتح المجال للورش والمحلات الصغيرة لمباشرة عملها فورا ككراجات التصليح وقطع السيارات ومحلات الزجاج وغيرها مما لا تتطلب أثناء عملها اختلاطًا اجتماعيًّا  في جميع المدن الفلسطينية.
  6. السماح لجميع المنشآت التي تشغل أقل من خمسة عمال بالعمل في جميع المدن والمحافظات
  7. السماح للشاحنات والمركبات التجارية بالقيام بعملها .
  8. تقليص ساعات العمل لتصبح خمس ساعات ، باستثناء مصانع الأغذية والأدوية وتوابعهما.
  9. الالتزام بوضع الكمامات على الوجه عند الخروج من البيت وحتى العودة إليه .
  10. دعوة وزارة التعليم والتعليم العالي والجامعات  لعقد مؤتمر علمي عبر وسائل الاتصال الحديثة، حول طرق التغلب  على وباء كورونا ، ودعوة الباحثين والمتخصصين بتقديم أوراق عملهم ؛ لأن ما سيتمخض عن مثل هكذا مؤتمرات من توصيات سيكون لها الأثر البالغ في التغلب على هذا الوباء الفتاك .
  11. إنشاء صندوق يطلق عليه " زكاة كورونا" في شهر رمضان الفضيل ، وذلك لتعزيز التكافل الاجتماعي ، وتقديم المساعدة للعائلات المحتاجة .

14 العمل مع الشركات المزودة للإنترنت بإطلاق باقة مجانية لتشجيع المشتركين في البقاء في منازلهم.

بقي أن نقول أن تسليطنا الضوء على بعض الثغرات ، وتوجيه الانتقادات لا يجب أن يحجب عن أعيننا الإنجازات الهائلة التي  حققتها الحكومة وعلى رأسها دولة رئيس الوزراء الذي لا تنقصه الخبرة والدراية والحكمة والعزيمة ، فلا جُحد لما قاموا به من جهود ، وما حققوه من إنجازات حتى الآن .

وإن إطلاق الحكومة للحوار والنقد وإشراك الجميع في إيجاد  الحلول ، وتشجيع حرية التعبير عن الرأي تترك مجالا واسعا للسؤال والنقد مما يؤدي تنمية القدرة على الإبداع والابتكار ، كما يؤدي إلى خلق مناخ تفاعلي مع المشكلات ، ويبني الطاقات الإيجابية ويرعاها ، كما سيؤدي إلى زيادة ثقة المواطن بالحكومة . فبالحوار نتغلب على ثقافة الصمت ، والطاعة العمياء ، ونطلق روح الشجاعة والإقدام ، وإطلاق المبادرات الناجعة ، وإيجاد الحلول الخلاقة لنبني معا جيلا من المبدعين بدلا من طابور من المقلدين ، جيل يوظف التحديات ويحولها إلى إيجابيات ، فمن يزرع قمحًا يأكل خبزًا ، ومن يزرع الزوان يحصد هشيمًا .

إننا بحاجة لتوفير مناخ خصب لإعمال العقل والتفكير لإطلاق مثل هذه المبادرات، التي تستدرك النقص فتتمّه ، وتلمس المقيَّد فتطلقُه ، ونُطلق العقل الأسير فنحرّره .

 

 

 

 

المصدر: 
د . مفيد عرقوب