محمود عليان..قصة شهيد بحجم وطن

قصة شهيد

ديالا الريماوي

(خاص) زمن برس، فلسطين: الشهادة كانت حلمه، وحب الوطن تهمته، والحجر وسيلته في الدفاع عن كرامته، والميدان هو قائده، ولثامه كوفيته، والشجاعة صفته التي يتسم بها، فهو الشاب المقدام الذي يتقدم الصفوف، الممرض الذي حمل الجرحى والشهداء على أكتافه، وزف إلى أمه بعد 50 عاماً من الانتظار والإنجاب شهيداً، إنه محمود عليان.

في 18-2-1997 عمّت الافراح في بيوت بلدة عناتا ولا سيما في منازل عائلة عليان، ابتهاجا لابنهم سعيد وزوجته نظمية التي أنجبت طفلها، بعد رحلة علاج طويلة استمرت ثلاثين عاما، لم تترك فيها نظمية طبيبا في الضفة والأردن إلا وتوجهت إليه.

"عندما أخبرني الطبيب بأني حامل سجدت على أرضية المختبر أشكر الله، وأخيرا بعد 30 سنة سيتحقق حلمنا بأن يكون لنا طفلا" بهذه الكلمات عبّرت أم محمود عن سعادتها لحظة سماعها الخبر.

لم يكن محمود طفلهم الوحيد، فبعد بضعة سنوات أنجبت نظمية ولد وثلاث بنات توأم، توفى والدهم بعد بضع سنوات، إذ كان عليها أن تكون بمثابة الأم والأب لأولادها الصغار.

محمود الطفل الأكبر، كان يبلغ من العمر عند وفاة والده أربع سنوات ونصف، لم يكن سوى ذلك الطفل الذي لم يعرف كثيرا معنى غياب والده الأبدي، إلا أن حرص والدته بأن يكون محمود بجانبها رجلاً لا طفلا ليساندها، جعله يتحمل المسؤولية مع والدته.

تقول أمه" جلستُ بجانبه وقلت له : يا محمود والدك توفى، ويجب عليك أن تكون مثله، أبوك كان رجلا قويا وصديقا ومحبا لعائلته".

وتضيف والدته في حديث مع زمن برس:" ربيت محمود على الصدق والأمانة، زملاؤه وأصدقاؤه في المدرسة والكلية يعرفون بأنه ذلك الشاب صاحب الخلق الرفيع، الصادق، الشريف، الأمين، يُوثر الأخرين على نفسه".

بعد إنهاء مرحلة الثانوية بنجاح، كان محمود يرغب بأن يدرس تخصص هندسة الحاسوب، فاجتمع مع أصدقائه وأقاربه ومعلمته هيام التي أحبها دوما، إذ قالت له:" التمريض تخصص مناسب لك يا محمود"، فرد عليها وهو كذلك.

شجعته والدته على التخصص، وقالت له :" يا محمود التخصص هو المناسب لك، فأنت انسان حنون وعطوف، وكل هذه الصفات الانسانية التي بداخلك ستجعلك مع مهنة التمريض وكأنك تتوج نفسك".

القائد الميداني

منذ صغره كان محمود يتسم بصفة القائد، فكان يشارك بنشاطات المدرسة والكلية ويلقي الكلمات في العديد من المناسبات، فهو أحد نشطاء حركة فتح يحضر كل المناسبات الوطنية، لكن ذلك النشاط كان مقلقا بالنسبة لأمه إذا كانت تخشى عليه من الاعتقال أو الإصابة خلال المواجهات.

فمنذ بدء الهبة الجماهيرية كان محمود القائد الميداني في المواجهات الدائرة قرب مستوطنة " بيت إيل" شمال البيرة، أصيب خلالها عدة مرات برصاصات مطاطية، وفي كل مرة كان يحاول أن يخفي عن أمه سر إصابته، إلا أنه سرعان ما ينكشف.

تشير والدته إلى أنه أصيب الشهر الماضي برصاصة مطاطية في الكتف، تلك الرصاصة التي آلمته حقا، أما الرصاصة التي أصيب بها في يده ولم يخبر والدته عنها فكانت عقب مشاركته في المواجهات، وفي المساء طلب من شقيقته مروى أن تعد له كاسة "نسكافيه"، لكنها أزاحت يده مبدية انزعاجها لأنها تدرس لامتحانين، عندها شعر بالألم وقال لها :أوجعتني يا مروى مكان الرصاصة".

بعد أن كشف محمود سر إصابته لشقيقته، سمع صوت أمه يناديه من الغرفة الأخرى :"أي مطاطة يما حبيبي؟، بدك تظل تتصاوب؟ ارحم قلبي انت بتقتلني يما".
أما الرد الذي جاء سريعا عقب العتاب، فكان بسؤال آخر وجهه محمود لأمه "هل أنت ابنة جدي؟" فأجابته أمه "نعم، فقال لها جدي لم يكن جباناً، وأنا لست جباناً، هل أنجبت ابن جبان! فردت عليه أمه لا، لكن يا بني خوفي عليك يجعلني أخشى أن تصاب بإصابة خطرة، فقال لها :" اللي حط الروح بياخدها".
لم ينتهي العتاب ولم يتوقف محمود عن اقناع أمه بالفكرة التي يقاتل من أجلها، إذ كان يقول:" يا أمي إذا لم ندافع نحن عن مقدساتنا وأرضنا فنحن لسنا أبناءكم، ولا أبناء الوطن والختيار ياسر عرفات، نحن شعب الجبارين هكذا ربيتمونا، لن يردعني أحد عن انتفاضتي بوجه المحتل".

محمود كان يبرر في بعض الأحيان مشاركته في المواجهات، بأنه يذهب مع المسعفين ويساعدهم في نقل الجرحى.

من بين أحلامه الكثيرة أن تكون أمه أم شهيد، فمنذ شهر آيار من العام الحالي وحتى تاريخ إصابته كان يكرر لأمه جملته المعهودة :"يا أمي أنا انسان ناجح في كليتي وحياتي ومن شدة محبتي لك أريدك أن تكوني أحلى أم شهيد".

لم يكن سهلاً على أم أن تسمع هذه الكلمات من ابنها، لا سيما من جاء إلى الدنيا بعد طول انتظار وصبر، فكانت فور سماعها لتلك الجملة تغضب وتطلب منه أن لا يكلمها، وتغادر إلى غرفتها، لكن محمود لم يحب رؤية أمه غاضبة فيلحق بها ويقول لها: "ارضي علي"، فتقول له وهي منزعجة " لا أريد"، يكرر طلبه فتقولها بصوت منخفض "الله يرضى عليك"، يبستم ويقولها بالصوت العالي.

الرصاصة القاتلة

في الحادي عشر من هذا الشهر استيقظت أم محمود وتوجهت لشراء بضعة أشياء، واتصلت عليه ليأتي لاصطحابها، فقال لها "حاضر لكن أرجوك دون تأخير أصدقائي ينتظرونني في المقاطعة"، إذ كان سيلقي كلمة في ذكرى استشهاد الرئيس ياسر عرفات. ذهب محمود وهو يرتدي أجمل ملابسه، إذ وصفته والدته حينها كالعريس.

في تمام الساعة الثانية والنصف ظهرا أمسكت والدته هاتفها واتصلت عليه ثلاث مرات، دون أن يجيب، فهي كانت تقول له دوما إذا لم تجب على اتصالاتي ثلاث مرات اعلم أن المرة الرابعة ستصيبني سكتة قلبية، لكنها قالت في سرها ربما ما زال في المقاطعة ولا يسمع هاتفه.

أعادت الاتصال لكن بعد الرنة الأولى كان الهاتف مشغول، في تلك اللحظة كان صديق محمود ينقله بعد إصابته برصاصة في الرأس، تلقت الخبر أمه فيما بعد عندما اتصلت عليها شقيقتها وطلبت منها أن تأتي لاصطحابها إلى مدينة رام الله، وعندما ذهبت إلى منزلها أخبرتها شقيتها أن محمود تلقى رصاصة وهو في مجمع فلسطين الطبي، فقالت لها :"ألم يكفيهم ما أطلقوه عليه هذا الشهر".

في كل مرة كان محمود يتلقى فيها رصاصة مطاطية يعود إلى المنزل يشتكي من وجع، لكن هذه المرة لم تكن كسابقاتها، ولأن قلب الأم دليلها شعرت أمه بأن جسدها ينهار عقب إعلامها بإصابته، فما كان منها إلا أن تتوجه إلى منزلها تتوضأ من أجل أن تقرأ القرآن على ابنها.

جاء أعمام محمود لاصطحابها إلى المستشفى، عندما رأتهم قالت "العوض على الله"، وعندما وصلت ورأت عددا كبيرا من أصدقاء وأقارب محمود أدركت أن إصابته خطرة.

بعد نصف ساعة من الانتظار في مجمع فلسطين الطبي، سمح الأطباء لي بالدخول، اقتربت منه فرأيت دمعة عند طرف عينه، شعرت بأن كل شيء في العالم صغير، هذه الدمعة التي لم أراها طيلة عشرين عاما إلا إذا كان محرورا، مسحتها إلا أن دمعة أخرى نزلت كررت فعلتي فنزلت دمعته الثالثة، تقول أمه.

في اليوم التالي من إصابته تم نقل محمود إلى أحد المستشفيات في تل أبيب نظرا لخطورة وضعه الصحي، وسمح لوالدته وعمه بأن يرافقاه.

في يوم الاثنين أحضرت أم محمود ماء زمزم وطلبت من الأطباء أن يزودوه بها، وبعد أن خرجوا من غرفته أمسكت والدته بيده وقالت له:" حبيبي محمود أنت قوي، أجبني، نحن في تل أبيب أريهم أن ماء زمزم حق، استيقظ انطق ولو بكلمة".

ما انهت والدته جملتها حتى ارتعش جسد محمود، لكن في حينها لم تستوعب ما حدث، قائلة :"اقتربت منه وقبلت جبينه، أمسكت بيده فارتعش جسده مجددا مرتين، توجهت مسرعة للطبيب وقلت له بأن يتحرك، لكن الطبيب لم يصدق، جاء معي إلى غرفته، أمسكت يده وقلت له :" رد علي" فارتعش جسده.

تسارعت دقات قلبها فرحت ظنا أن ما حدث رد فعل إيجابي، لكن إجابة الطبيب مفسرا ما حدث أن هذا نتيجة ضعف حركة القلب، حقيقة كانت تأبى أن تصدقها حتى بعد استشهاده، لكن ما زاد من صبرها وقوتها رؤيتها لهذا العدد الكبير من أصدقاء ومحبي محمود.

أحلام أنهتها رصاصة، فحلم رؤيته عريساً يزف إلى عروسه بات مستحيلا، إذا كانت تقول له والدته بعد التخرج يا محمود أريد أن أفرح بك، لكن محمود كان يقول لها :" بعد أن اتم عامي الخامس والعشرين سأقرر، في حياة محمود ما هو أهم من العروس يا أمي".

حرره: 
م.م