صيغة كيري للمفاوضات: جمود من دون تجميد

بقلم: عاموس هارئيل

عشية تدشين مسعى مجدد لتحريك المفاوضات السياسية بين إسرائيل والفلسطينيين، قبل شهور قليلة من الذكرى العشرين لاتفاقيات أوسلو، يبدو أن هذه هي فرصة التوقف وفحص ما جرى في الضفة الغربية على مدى هذه السنوات. وتعزز سلسلة جولات هناك الشكوك بأنه رغم النيات الطيبة لوزير الخارجية الأميركي الجديد، جون كيري، فإن احتمالات انهيار مبادرته الجديدة، كما جرى مع معظم أسلافه في المنصب في العقدين الأخيرين، كبيرة. غير أن الأمر هذه المرة لا يكمن في الفجوات الأساسية في مواقف الطرفين في القضايا الجوهرية (القدس، الحدود واللاجئين)، وإنما أيضاً في الأحداث الميدانية وعلى رأسها السيرورة المتواصلة لتوسيع المستوطنات.

وكل هذه تثير السؤال حول ما إذا كانت الخطوة الأميركية تصل متأخرة جداً بالنسبة للطرفين. ويظن شاؤول أرييلي أن الأمر ليس كذلك. وأرييلي، عقيد احتياط من مسؤولي مبادرة جنيف ومجلس السلم والأمن، وشريك في طاقم حكومة إيهود باراك للمفاوضات السلمية، وهو يزور الضفة أسبوعياً. وفي سفره في طرق السامرة، يشير إلى فورة البناء الجديدة في المستوطنات، لكنه يظهر معطيات تدل حسب رأيه على أن قيادة المستوطنين فشلت في مساعيها لمنع إنشاء دولة فلسطينية مستقبلية وضمان ضم المستوطنات الإسرائيلية في الضفة لإسرائيل.

ويعيش في الضفة اليوم أكثر من 340 ألف إسرائيلي، لا يشمل أولئك القاطنين في القدس الشرقية. والكتل الاستيطانية التي يتركز فيها حوالي 75 في المئة من الإسرائيليين، تحتل فقط 6 في المئة من أراضي الضفة. كما أن 88 في المئة من سكان الضفة فلسطينيون وفقط 12 في المئة إسرائيليون. ونسبة السكان داخل الكتل هي 5:95 لليهود فيما خارج الكتل هي 3:97 للفلسطينيين.

واستخلاص أرييلي هو أن الهيمنة والأغلبية اليهودية محفوظة فقط في الكتل، ولذلك، يقول، «لا توجد مشكلة مادية في التوصل لاتفاق حول تبادل أراضٍ مع الفلسطينيين، حيث تحتفظ إسرائيل بحوالي 4 في المئة من أراضي الضفة، معظم مساحة الكتل. ورؤساء المستوطنين يغسلون أدمغتنا بادعائهم أنهم منعوا الدولة الفلسطينية. وعملياً هذا لم يحدث. هناك 75 مستوطنة إسرائيلية خارج الكتل، لكن في 80 في المئة منها يسكن أقل من ألفي شخص في المستوطنة. وهذه ليست مشكلة لا يمكن التغلب عليها. كل المطلوب هو الجرأة والقرار السياسي».

وطوال 15 عاماً من تغطية ما يجري في المناطق، لم ألتق خبيراً يعرف ما يجري على الأرض أكثر من أرييلي. ولكن في هذه الحالة تثور الشبهة: هل يمكن أن ما يفعله أرييلي حالياً هو ما أسموه، في الماضي البعيد في سلاح المظليين، بـ«اغتصاب الميدان»؟ بكلمات أخرى: هل يفسر الوقائع الميدانية وفقاً لخريطته الأيديولوجية؟

صحيح أن المستوطنين لم يستوطنوا في القلوب، كما لم يقتربوا من هدف مليون إسرائيلي شرقي الخط الأخضر، الذي تحدث عنه زعماء عديدون مؤخراً. ولكن يصعب التجوال، مثلاً، في القطاع المجاور لمستوطنة إيتمار شرقي نابلس، من دون التفكير في احتمال أن يكونوا قد انتصروا وبات الوضع ميدانياً غير قابل للتغيير.

وفي شتاء العام 1998، كمراسل عسكري مبتدئ، زرت جدعونيم سوية مع قائد اللواء الإقليمي. ووصف قائد اللواء مطولاً إنشاء البؤر غير الشرعية، لكنه اعترف في الوقت ذاته بأن الجيش يوفر لهم الحماية. الذراع الأول للسلطة يعلن أن البناء محظور، والذراع الثاني يهتم بأمن المستوطنين في البؤر الاستيطانية والذراع الثالث تأكد أنهم يحصلون على مساعدة بنيوية ولوجستية. وبعد يومين نشرت «هآرتس» للمرة الأولى أن وزارة الدفاع «تغسل» (تسوّغ) بؤر في السامرة. وفي الزيارات خلال السنوات اللاحقة، حتى في أيام العمليات في الانتفاضة الثانية، كان بالوسع ملاحظة أن الاستيطان في جدعونيم يزدهر ويتوسع. وما بدا مرة مثل الغرب المتوحش، هو الآن شبكة مزارع مرتبة جداً، سيطرت على منطقة هائلة المساحة.

وفي مكتب غرشون مسيكا، رئيس المجلس الإقليمي السامرة والشارة اليمينية في قيادة المستوطنين، علقت قائمة متابعة لبدايات البناء في مستوطنات المجلس. وليس لدى مسيكا أسباب للتذمر: منذ زمن لم تمر أوقات أفضل للاستيطان في يهودا والسامرة، الشرعي وغير الشرعي، داخل الكتل وخارج الجدار الفاصل. والتجميد في مطلع أيام حكومة بنيامين نتنياهو الثالثة انقضى منذ زمن. والرقابة الحكومية ضعفت في العام الفائت وتقلّصت تحت الحكومة الجديدة، التي مكانة المستوطنين فيها أقوى من أي وقت مضى.

وتقدّر قيادة المستوطنين أن الحكومة معها، لكنها تخشى أيضاً من أن تنتهي فترة الازدهار جراء الضغوط الأميركية. وبنظرة للوراء لا ريب في أنهم جماعة الضغط الأشد فاعلية في المجتمع الإسرائيلي في العقود الأخيرة. والمستوطنون، بمستوطناتهم في وزارات الدفاع والإسكان والتعليم والأديان وإدارة أراضي إسرائيل ومؤخراً في سلطة الطبيعة والحدائق، يبقون الحريدين بعيداً خلفهم.

وفي العامين الأخيرين يتحدّث حاخامات الإعداديات الدينية عن مركزي قوة ضاعا: وزارة المالية والنيابة العامة، وعن الحاجة لتوجيه شبان مؤهلين لها لتغيير الصورة هناك أيضاً. وترى هذه النظرة أنه لو كان رجالنا متخندقين هناك لكان بالوسع بسهولة أكبر مواجهة دعاوى المنظمات اليسارية أمام المحاكم، كتلك التي قادت إلى إخلاء بؤر عدة.

ولكن يبدو أنه تمّ تحقيق الكثير. وجدعونيم ليست سوى مثال، ولكن الواقع مشابه جداً على مسافة 15 كيلو متراً جنوباً، في كتلة بدأت في أرييل في الغرب وانتهت ببؤر وادي شيلا وطريق ألون. ويطالب الإجماع في الرأي العام بإبقاء الكتل الاستيطانية تحت السيطرة الإسرائيلية في أية تسوية نهائية مستقبلية. ولكن في عقدين منذ اتفاقيات أوسلو تمددت بفعالية كل الكتل اصابع نحو الشرق دقت اسفيناً يمنع كل تطور فلسطيني مستقبلاً.

ويتذكر بني كاتسوفر، وهو من الحفنة الضيقة لمنشئي غوش إيمونيم، حديثاً مع اسحق رابين في فترة اتفاقيات أوسلو، عندما شرح رئيس للحكومة حينها لقادة المستوطنين نيته تسليم الفلسطينيين المنطقة شمالي نابلس لعدم وجود مستوطنات فيها. واستخلص المستوطنون العبر. وكاتسوفر الذي ترك السياسة منذ سنوات طويلة، يكرس حالياً قسماً من وقته في جولات إرشاد للزوار. وعندما يقف على جبل كبير شرقي نابلس، قرب بيته في ألون موريه، يستمتع باستذكار سلسلة إقامة المستوطنات في السبعينيات. من وجهة نظره، واضح أنه انتصر.

 

بؤر خداعية

 

وعلى خلفية المسعى الأميركي الجديد أيضاً، يبدو أن مستوى التوقعات في السلطة الفلسطينية ظل متدنياً. ولا يشارك كبار مسؤولي السلطة في تفاؤل وزير الخارجية الأميركي جون كيري. ويشتبه الفلسطينيون في أن تبني نتنياهو لحل الدولتين لا يستند إلى أساس وأن حل النزاع لا يعنيه.

ومثل أرييلي وكاتسوفر، يفهم الفلسطينيون أيضاً ما جرى على الأرض في العقدين الأخيرين: ليس فقط تضاعف ثلاث مرات عدد اليهود، وإنما أيضاً انتشار البؤر الاستيطانية شرقاً وخلق تواصل استيطاني على أرض تبدأ على الخط الأخضر وتنتهي تقريباً في غور الأردن. وفي نظرهم، فإن تأجيل الحل في السنوات السبع بين 1993 وكامب ديفيد في العام 2000، وبعد ذلك في السنوات الـ 13 للانتفاضة والجمود السياسي، تم استغلاله جيداً من المستوطنين. وحتى عندما تلوّح السلطة بخطر الدولة الثنائية القومية، يبدو أن الشك لدى الفلسطينيين يزداد حول أن المستوطنين سيكسبون المزيد من الأرض والنفوذ الذي سيحول دون هذا السيناريو.

والمسار البديل الذي درسته السلطة هو المسار الدولي. إذا فشلت مبادرة كيري، سيستأنف الفلسطينيون في الخريف المقبل طلباتهم للمؤسسات الدولية، بهدف تكريس مكانة السلطة كدولة وإحراج إسرائيل. والإجراءات السابقة في هذا الاتجاه، خريف 2011 وخريف 2012 لم تتوّج بالنجاح. وحالياً تبذل السلطة جهداً لبلورة خطة أرتب تمهيداً للمرحلة المقبلة.

وبالتوازي، تصارع السلطة إسرائيل ـ في الحلبتين القضائية والإعلامية - حتى في المنطقة «ج»، عبر إنشاء بؤر خداعية فلسطينية والدعاوى أمام المحكمة العليا. وحددت السلطة موعداً نهائياً: 7 حزيران، وهي تطالب باستئناف المفاوضات.. وإلا... وهكذا إذا لم تستأنف فإن الفلسطينيين مقتنعون أن الطريق تقود في النهاية لانتفاضة ثالثة.

 

لا مبرر للتراجع

 

يوم الاثنين عقد في مكاتب حركة «مستقبل أزرق أبيض» في قرية هياروك نقاش حول المفاوضات السياسية. وقد أنشأ الحركة مبادر الهايتيك أورني يتروشكا، بهدف حث خيار الدولتين، حتى بالتحاور مع المستوطنين. وشارك في النقاش اثنان من رفاق يتروشكا في قيادة الحركة، المحامي جلعاد شير، الرئيس السابق لديوان رئاسة الحكومة في عهد باراك ورئيس طاقم المفاوضات مع الفلسطينيين والوزير ورئيس الشاباك السابق عامي أيلون. وعرض الضيفان مواقفهما غير البعيدة عن مواقف الحركة: الوزير سابقا دان ميريدور ورئيس شعبة الاستخبارات سابقا الجنرال عاموس يادلين.

وهؤلاء مجموعة مجربة، سواء في الاتصالات من أجل السلام أو في الجانب الأمني الاستخباري، ولديها شعور بوجوب حث العملية السياسية. ولكن يبدو أنهم أيضاً يدركون المفارقة القائمة في موقف الجمهور الإسرائيلي من المفاوضات: حينما يكون إرهاب فلسطيني، لا يريدون إخلاء مستوطنات لأنه ممنوع الخضوع للإرهاب. وعندما تكون المناطق هادئة، لا داعي للانسحاب. هذا شرك إسرائيلي أصلي.

كل المتحدثين وجّهوا كلامهم إلى الزخم الذي ينتجه كيري حالياً، لكنهم متشككون بشأن فرص ترجمته إلى تقدم فعلي. وميريدور، الذي لم يجد مكانه في الليكود طبعة 2013، قال إنه نشأ في الجمهور وهم بأن الهدوء في المناطق يمكن أن يظل دائماً. وتجاهل المسألة الفلسطينية في جدول أعمال الانتخابات الأخيرة كان مؤقتاً وخادعاً. ولاحظ إيلون أن «الناس لا تموت في الشوارع، لذلك ليس هناك إلحاح. والإسرائيليون لا يدركون أن قسماً كبيراً من الهدوء تحقق بفضل أجهزة الأمن الفلسطينية».

وميريدور، متذكراً أيامه كناشط في حركة حيروت، يرى «إنجازاً عظيماً في واقع أن خطوط 67 لم تعد خطوط النهاية للنزاع»، لكنه يشدّد على أنه «مطلوب تناسب بين السلام والاستيطان»، ويدعو لتقييد البناء في المستوطنات. وقال «يستحيل الحفاظ على وضع دائم لأرض محررة وأناس تحت الاحتلال». أما يادلين فزعم أن الوضع الاستراتيجي لإسرائيل تحسّن جراء الفوضى في العالم العربي. وأوصـى بوجـوب رسم حدودنا بأنفسنا، لكن ليس كما فعل شارون في خطة الفصل. ويتحدّث يادلين عن إخلاء من طرف واحد ومحدود لأراضٍ في الضفة، عبر البقاء مؤقتاً في غور الأردن، لحين إنضاج تسوية دائمة. وفي رأيه، مفتاح الانفصال الناجح هو الحفاظ على الإجراء الديموقراطي: تفجّر غضب المستوطنين العام 2005 أيضاً لأن شارون خدعهم حين تجاهل نتائج إحصاء الليكود.

وتجاهل كل المتحدثين الفيل في الغرفة: مسألة قدرة الجيش على تكرار خطة الفصل مضاعفة عشر مرات ـ إخلاء حوالي 100 ألف إسرائيلي من المستوطنات خارج الكتل. يبدو أنهم لا يأخذون بالحسبان سيرورات العمق الجارية في الجيش منذ ذلك الحين، خصوصاً زيادة نسبة ذوي القبعات الدينية في مراتب الضباط المحاربين وهي بين 30-40 في المئة. وهذا جيل عسكري جديد، كثيرون فيه يعتقدون أن إخلاء يهود من تفواح وإيتمار ليس مشروعاً. يستحيل تجاهل شدة العواطف، الدينية والأيديولوجية، تجاه يهودا والسامرة مقارنة بالمستوطنات المعزولة في غزة، والتي كان مختلفاً حول ما إذا كانت تعتبر جزءاً من أرض إسرائيل.

وقال رئيس الشاباك سابقاً عامي إيلون: «أنا أتحاور مع حاخامات. وتوصلت لاستنتاج أننا إذا أدرنا الأمر بشكل صائب، رغم الأزمة الكبيرة التي وقعت، الإخلاء سيتم». ويشارك يادلين هذا الموقف ويقول: «هناك تضخيم في وصف التغيير في الجيش. إنهم سيعرفون كيف يفعلون ذلك كما في غوش قطيف. معظم الضباط يتقبلون إمرة المستوى السياسي».

وفي خلفية هذا النقاش النظري يقع انعدام الرغبة لدى المستوى السياسي، في إسرائيل والسلطة، للتوصل إلى اتفاق. وقد ذهل أناس تحدثوا مع نتنياهو مؤخراً لضآلة الوقت الذي يكرسه للمسألة الفلسطينية. إيران وسوريا تقلقانه أكثر والفوضى في العالم العربي تبرر في نظره الحذر الزائد في المسار الفلسطيني. وشركاؤه الجدد، يائير لبيد ونفتالي بينت، يتفقان معه.