ربحنا باكستان وخسرنا الهند..!!

بقلم: 

خسرنا الهند منذ زمن بعيد، وأعني بذلك العالم العربي، الذي انحاز إلى باكستان منذ أواسط السبعينيات في القرن الماضي. وما بيننا وبين الهند أفضل وأبقى ألف مرّة مما بيننا وبين باكستان، لكن الأيديولوجيا، وآخر فصول الحرب الباردة، وضعتنا مع الباكستانيين في خندق واحد أمام الهنود وضدهم. وقد كانوا على مر عقود كثيرة أصدقاء أوفياء.

لم يأتنا من الباكستان سوى أبو الأعلى المودودي، وطموح ضياء الحق لإنشاء مشروعه "الإسلامي العظيم"، الذي لا يعني في التحليل الأخير سوى محاولة الثأر من الهنود والهند، وإبقاء نار الحرب في كشمير مشتعلة، وتغذية الجماعات والأيديولوجيات الإرهابية في أفغانستان، التي أرادها حديقة خلفية له. وهي الجماعات نفسها، والأيديولوجيات نفسها (مهما تعددت الجغرافيا والتسميات)، التي تقتل اليوم في مصر، وسورية، والعراق، وتسعى إلى موطئ قدم في فلسطين.

كان يمكن أن نتعلّم من الهند كيفية تكريس الديمقراطية في بلد متعدد اللغات، والديانات، والأعراق، وكيف يمكن لبلاد مثقلة بالتاريخ القديم، والتقاليد البالية، والطوائف التي يتنافى وجودها حتى مع الذكاء الإنساني العام، تحقيق التقدّم في عالم لا يشفق على أحد، ولا يحترم إلا الأقوياء.

ولماذا كل هذا الكلام؟

لأن أشخاصاً أخذتهم الحماسة فحاولوا منع فرقة هندية للرقص من تقديم عروضها في رام الله، بدعوى مقاومة التطبيع. لا يهمني ما جاء في بيان وزارة الثقافة من إنشاء وكلام عام، وكذلك ما جاء في بيان الداعين لمقاطعة الفرقة، الذي حاول أصحابه الغاضبون تبرير ما حدث بكلام كبير، كل هذا لا يبرر الفوضى والتحريض. نحن في الحالتين أمام تسليع لأفكار عامة تقبل الفهم والتأويل على أكثر من وجه وقبيل، وإذا كان معنى مقاومة التطبيع ما حدث للفرقة الهندية في رام الله، فمصير هذه المدينة لن يكون أفضل من مصير قندهار الأفغانية، وقد كانت ذات يوم مدينة عامرة ومزدهرة قبل باكستان والطالبان. وبمناسبة التطبيع، والكلام عن التطبيع، والمقاطعة الأكاديمية والفنية لإسرائيل، وبقدر ما يتعلّق الأمر بالفرقة الهندية فهذا هو الحق الذي يراد به باطل.

-2 في كل كلام عن فلسطين إذا خرج الإطار العام للتفكير عن الفكرة المركزية التالية، لن يصب في نهاية الأمر في صالح فلسطين الفكرة، والشعب، والقضية والتاريخ، واعني بذلك: ضرورة التفكير في كل ما من شأنه إبقاء العلاقة بين التجمعات الديمغرافية الكبرى في الجليل وغزة والضفة حيّة وحيوية، ليس بالمعنى المجرّد، والثقافي، أو حتى السياسي، بل بالمعنى اليومي العام، بمعنى التواصل والتفاعل في ما لا يحصى من ملايين التفاصيل في حياة الناس اليومية.
الشعوب تفنى، ولكنها لا تُخلق من عدم. ولا يمكن أن تخلق شعباً من تجمعات ديمغرافية مقطعة الأوصال، وخاضعة لأنظمة سياسية، وقيم ثقافية، متباينة، لا توحدها فكرة، ولا يجمع شتاتها مشروع مشترك. قد يستمر هذا الوضع، ويمتد إلى عقود من الزمن، لكنه لن يستمر إلى الأبد.
يدرك الإسرائيليون هذه الحقيقة، وقد عملوا على تقطيع الصلات والاتصالات والعلاقات اليومية بين التجمعات الديمغرافية الكبرى منذ أوسلو: فصلوا القدس عن الضفة الغربية، وفصلوا غزة عن الضفة، وفصلوا الجليل عن هذه وتلك، وفي السنوات الأخيرة تكفلت "حماس" بالباقي. وإذا استمر الحال على هذا المنوال، فلن يكون في المستقبل ما يسر الصديق أو يكيد العدو.

3-فلنصل إلى خلاصة محتملة:
فكرة دولتين لشعبين تتسع لأكثر من تفسير وتأويل، مثلا: ضرورة البحث عمّا يبقي الصلات اليومية بين التجمعات الديمغرافية الفلسطينية الكبرى، في فلسطين التاريخية، حيّة وحيوية من ناحية، وما يمكن الدولتين من إنشاء علاقات اقتصادية وثقافية مستقرة، على أمل التوصل إلى ما يوحّد البلاد في يوم ما. حتى قرار التقسيم في العام 1947 ينص على أمر كهذا.
لا أعتقد أن فكرة الدولة الواحدة ممكنة في الوقت الحالي، ولكن الصراع في فلسطين وعليها لن ينتهي إلا بتوحيد البلاد على أسس تضمن العدالة بالمعنى التاريخي والسياسي، وتحمي فكرة فلسطين من خطر التشظي والضياع في متاهة عقود قادمة طويلة.
اكتشف محمود درويش هذه الحقيقة، وعبّر عنها بطريقته الخاصة والفريدة: "ما أكبر الفكرة وما أصغر الدولة/ ما أصغر الفكرة وما أكبر الدولة". وفي كل ما نعيشه منذ عقود يتجلى الصراع بين هذه وتلك. وفيه، أيضاً، يتجلى الصراع بين الفلسطيني المعتدل باعتباره متطرفاً حكيماً، والفلسطيني المتطرف باعتباره معتدلاً يائساً.
على خلفية هذا الكلام يمكن التفكير في أشياء كثيرة. فلا يكفي، مثلاً، أن نربح الدولة ونخسر العالم. ومن المؤكد أننا لن نحصل على الدولة إلا إذا ربحنا العالم. وبقدر ما يتعلّق الأمر بما حدث في رام الله فلنقل: ربحنا باكستان وخسرنا الهند.

 

المصدر: 
الأيام