عندما يبتذل الفلسطيني مأساته، هل هذه هي حكاية اليرموك يا محمد بكري؟

بقلم: 

"يرموك" فيلم قصير لمحمد بكري، أخرجه مؤخرا، عن مأساة مخيم اليرموك. لن أصف محمد بكري بالساذج أو الجاهل أو قليل المعرفة أو ناقص المعلومات والاهتمام؛ عما وبما يجري في سوريا وعلى الأقل بالنسبة لشعبه الفلسطيني هناك. لأن السذاجة ترف لا نستطيع تحمل تبعاته كفلسطينيين، مثقفين أو فنانين أو كتاب أو مبدعين في أي مجال وكمواطنين عاديين أمضينا من العمر أكثر من 7 عقود ونحن نعيش في هلع وكوراث وانعدام الطمأنينة وتشرد وقتل وتفتيت.
سأنطلق من هنا، إذا لم يكن محمد بكري ساذجا وهو ليس كذلك، أو جاهلا وهو ليس كذلك أو قليل المعرفة أو ناقص المعلومات والاهتمام. فلا بد أنه كائن يعرف ماذا يفعل، فقد ارتكب في السابق أخطاء وخاض تجارب تمثيلية أساءت إلى صورة الفلسطيني في أفلام غربية أو إسرائيلية واستطاع إقناع الجمهور الفلسطيني من محبيه، أنه كان ساذجا أو تم خداعه أو ما إلى ذلك من الحجج الواهية كذرة تراب في مهب الريح. ولكن في هذا الفيلم الذي أتناوله لا يمكن تبرير ولا إقناع أحد بسذاجته أو جهله؛ فالموضوع وطوال ثلاث سنوات وعلى مدار الساعة يصفع الناس الجهلة والأذكياء والمثقفين وعديمي الثقافة والفنانين أو العاملين في تسليك مجاري القاذورات في الأحياء الفقيرة.
لم يشفع لمحمد بكري لا موسيقى فاغنر ولا الصورة المصنوعة بجهد واضح ولا دمعته الصغيرة التي انسابت على خده في فيلمه القصير 8,08 دقائق، الذي كتب السيناريو وأنتجه وأخرجه عن قصة لابنه الممثل صالح بكري والذي أسماه "يرموك" هكذا بلا "أل" التعريف، ربما برغبة لا وعية ليجعل من الفيلم الذي يزعم أنه يحكي عن مخيم اليرموك، فيلما يحكي عن "يراميك" كثيرة في العالم العربي، وخاصة أنه أهدى الفيلم في نهايته، وليس في بدايته وقبل نزول الجنريك إلى "الأمة العربية" ليذكر هذه الأمة بالمأساة التي تعيشها شخصيات فيلمه.
يصدر بكري فيلمه بالعنوان التالي باللغتين العربية والإنكليزية "جراء الأحداث الدامية التي اندلعت في سوريا منذ 2011 تشرد مئات الآلاف وعضهم القهر والجوع". هكذا يفتح الفيلم على عائلة المفترض أنها فلسطينية في غرفة متواضعة، يفترشون حصائر بلاستيكية، هي المطبخ ومكان النوم، العائلة مؤلفة من ستة أطفال والأم والأب "محمد بكري".
تستعرض الكاميرا الوجوه بلقطات قريبة إلى أن تصل إلى الأب حيث تعود الكاميرا إلى وجهيَّ الفتاتين واحدة بعد الأخرى، من زاوية الأب وكأنه في حيرة من أمره، أي الفتاتين يختار لأمر سنكتشفه فيما بعد لأنه محور القصة. ويختار البنت الأصغر والتي لا يبدو أنها تجاوزت الثانية عشر من عمرها.
تنتقل الكاميرا بعد ذلك لمشهد في السيارة "بلوحة إسرائيلية" وليس سورية، يقودها الأب ومعه الفتاة إلى أن يصل إلى منطقة معزولة بالقرب من جدار أو خزان ماء ضخم وأشرطة شائكة. يتوقف السائق محمد بكري فنرى ضوء سيارة قادما بمواجهته. تقترب السيارة وهي من نوع مرسيدس فارهة، فنرى في المرسيدس إلى جانب السائق شيخا يرتدي الملابس الخليجية التقليدية، الحطة والعقال ودشداشة بيضاء. ينزل السائق ويقترب من نافذة سيارة بكري حيث تجلس الفتاة ونسمعه يقول لها: افتحي فمك! ثم يعود أدراجه إلى المرسيدس وفي طريقه يضع في جيب سترته كاشفا للضوء يساعد على الرؤية عن قرب. يغيب لحظة ثم يعود إلى محمد بكري وينحني فوق رأس الفتاة ويناوله شيئا.
يتناوله محمد بكري بتردد ضعيف ثم يقول للرجل: هاي خمسة واتفقنا على ألف.. فيقول الرجل: لم نتفق على أسنان خربانة. ثم يأخذ بكري ما هو واضح أنه نقود وتنزل الفتاة بعد أن ترمق أباها بنظرة عتاب وتذهب مع السائق وتتحرك المرسيدس ومعها الفتاة. ويعود بكري أدراجه، بعد ذلك ننتقل إلى الغرفة في منزل العائلة فنرى الأطفال نائمين ويدخل الأب حاملا معه أكياس بلاستيكية مليئة بالفواكه والخبز الحاف، يضعها على الأرض فينهض الأطفال من نومهم بسرعة ويبدؤون بالتهام الطعام. لينتهي الفيلم على أحد الأطفال يحمل موزتين حول وجهه والكاميرا تقترب منه ثم ينتهي الفيلم بالإهداء: إلى الأمة العربية.
أحببت تناول هذا الفيلم الذي أثار اهتمامي لأسباب منها أن مخرجه وفريق العمل به فلسطينيون من الثماني وأربعين. ولأن المخرج محمد بكري ممثل ومخرج فلسطيني أحبَّ أن يقنعنا بأن كل أهل قرية البعنة، قريته حيث وُلد ويعيش، ساعدوا في إخراج الفيلم.
بمعنى أن أهل البعنة كافة ساعدوه في إخراج هذا الفيلم التسطيحي والمقزز في رؤيته لما يجري في مخيم اليرموك وليس ذلك وحسب، ففريق العمل غير كاتب القصة والمخرج والمصور يتضمن 13 شخصا بين ممثلين وتقنيين من عائلة البكري. ما يضع المشاهد أمام معضلة صعبة لنقد الفيلم حين تتم المواجهة بين المشاهد والناقد من جهة وعائلة البكري وأهل البعنة الطيبين من جهة أخرى.
سأبدأ من تصدير الفيلم بتسمية ما يجري في سوريا بالأحداث الدامية وهو وصف لما يجري وليس ما هو في الواقع، وكأن هناك محاولة لا واعية لإنكار دور النظام والحرب التي يشنها مع حلفائه ضد الشعب السوري، وكأن ما يجري في سوريا محض أحداث تحدث بالصدفة وبالصدفة تصير دموية.
ثم ما هي الحكمة من تسمية الفيلم "يرموك" لماذا يمحي المخرج "أل" التعريف من اليرموك الحاضر الذي يتعرض لأبشع أنواع الحصار والتجويع والتدمير لسكانه الفلسطينيين. هل هناك يرموك آخر كي نتجاهل اليرموك الأصلي؟ ينطلق الخطاب الأساس للفيلم من تفصيل بسيط ليفرض هذا التفصيل على مسيرة الأحداث في مخيم اليرموك، وهذا التفصيل هو قيام الأب ببيع ابنته القاصر إلى شيخ "خليجي" ثري مقابل بعض المال يطعم به أطفاله الآخرين.

 

المصدر: 
العرب