الظواهر الثقافية.. القراءة وما بعدها!

اتسمَ أسلوب التثقيف المتداول بين الشباب في العقد الماضي، بارتباطه بالوسائل المرئية أو المسموعة بشكل مباشر، وبقالبٍ مرتبطٍ بأسلوب البكاء والدعاء؛ الذي انتهجه العديد من الدعاة الذين وصلوا بأسلوبهم هذا إلى فئات متنوعة، كانت أبعد ما تكون عن الثقافة الدينية والالتزام بالشعائر، ولا شك أنها قد انتقلت بهذا الأسلوب خطوةً إلى الأمام في موضوع الالتزام بالشعائر كالصلاة والحجاب واكتساب شيء من الثقافة الدينية بأسلوب أكثر تشويقاً وجذباً لأبناء الجيل الذي لم يعد قادراً على الجلوس في حلقات المساجد -إن وصلها أساساً- أو الاستماع إلى محاضرات جادةً من مشايخ السلفيين والأزهريين.

استمرت هذه الموضة فترة من الزمن وسطع نجم العديد من "الدعاة الجدد" الذين وصل تأثيرهم إلى الفئات الأكثر ابتعاداً عن الدين من الناحية الشعائرية، وصولاً إلى بعض ساكني القصور العربية. ولكن ومع بداية ثورات الربيع العربي تكشفت العديد من الحقائق ابتداءً من التضليل الكبير، الذي كان يمارسه هؤلاء "الدعاة" الذين ما استطاعت حكمتهم وعقلانيتهم ونجوميتهم أن تتخذ موقفاً موازياً لما يريده الشباب، الذين طالما رقَّت قلوبهم وفاضت عيونهم وهم يستمعون لوعظ هؤلاء الدعاة، ولكن دموع الدعاة وقلبوهم لمْ ترق وشرار حكمتهم لم يقدحْ بموقفٍ حازم لدماء الشباب وصرخاتهم أمام العساكر التي توحشت أمام شعوبها. الحقيقة الثانية أثبتت عقم هذا النوع من الثقافة الوعظية الشكلية التي سرعان ما استفحل فيها سرطان التطرف والتكفير أو الإرجاء.

خلال السنوات القليلة الماضية بدأت تظهر موضة ثقافية جديدة مختلفة من حيث الشكل والمضمون تعتمد الكتاب ومجموعات القراءة وحلقات نقاش الكتب وقوائم ترشيحات الكتب ومعارض الكتاب، تعتمد كل هذا وغيره مادةً للتثقيف وبناء الذات الثقافية في المحيط الاجتماعي الخاص. المتابع لهذه الظاهره منذ سنوات يلاحظ أمرين: طغيان الرواية والإناث على المشهد.

الرواية والتي أصبحت في زماننا ديوان العرب -كما يبدو- ودخل ميدان الكتابة فيها كل من هب ودب -كما يقال- والتي -برأيي- لا مشكلة في الاهتمام بها وقراءتها بل إن الكتَّاب والأدباء والمثقفين أمام واجب كبير لتعزيز محتوى الروايات ونقدها وتقويمها حتى ينتقل الكتَّاب من مرحلة الكتابة البدائية إلى مرحلةِ الاحتراف والإبداع في تقديم روايات ذات قيمة أدبية وإنسانية راقية ومحتوى معرفي دقيق. ولكن المشكلة في بناء ثقافة الفرد كاملة في سياق الروايات التي مهما ارتقى مستواها، فإنها تظل سباحةً على السطح معرفياً، وغارقةً في الخيال أدبياً. ولذلك فإنه من الخطير الاكتفاء بالروايات لبناء الثقافة، بل إن الكثير من الروايات التي ذاع صيتها واشتهر كاتبوها لا تكاد تجد فيها غير تقليد لروايات أجنبية أو تعزيزاً لجانب إثارة الشهوات وهدم القيم والعقائد، وإثارةً لأسئلة حول قضايا هامشية في مجتمعاتنا التي تئن تحت ضربات الاحتلال والجهل والإرهاب والاستبداد السياسي.

أما ظهور الإناث ضمن هذا السياق الثقافي فهو تعبير عن حراك اجتماعي حادث خلال العقود الأخيرة أخذت فيه النساء دوراً مهماً في الحراك الثقافي المجتمعي بعد تطور نسبي في جانب تعليم الإناث وانتقال عدد كبير منهن إلى الدراسات الجامعية وموجات التثقيف الإعلامي الموجه إليهن، بالإضافة إلى ما يلحقهن عادةً من حب اتِّباع الموضات الدارجة، وبينما وجد الشباب دوائر اجتماعية مشتركة أكثر ارتباطاً بحياتهم ككرة القدم والرياضة واللعب والتجمع في المقاهي وجدت بعض الإناث أنفسهن في عالم القراءة كدائرة اجتماعية تعبِّر فيه الفتاة عن ذاتها خارج البيت بشكل مقبول أسرياً واجتماعياً.

السؤال الآن، ماذا بعد ظاهرة القراءة هذه وإن شئتَ قُل "موضة ". ما هو الأثر الذي نريده من هذه الظواهر الثقافية، هل نكتفي بإضافتها إلى السيرة الذاتية لهذه الأمة كما كان مع ظواهر سابقة ونقول: بأننا أصبحنا نحب الكتب والقراءة بصرف النظر عن المنتج النهائي الذي سبق وأنتج غيره -كما أسلفت في البداية- بناءً هشاً متهاوياً مع أول هزَّة أصيبت بها الأمة وظهر للجميع أن القلوب التي اجتمعت على البكاء والدعاء تفرقت بها أهواء السياسة وبريق النجومية والمال؟! هل نريد أن نزيد من مبيعات الكتب وتصنيفات دور النشر لدينا؟ أم هل نريد أن نظهر بصورة حضارية أمام العالم؟

ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- تعوُّذه من (علمٍ لا ينفع) وهو ميزان عظيم لأمة تقوم فلسفتها على رفض العلم لأجل العلم فقط، فنحن نريد علماً نافعاً، خلاصة القول فيه -حسب قناعتي-: القراءة في التخصص. ربة المنزل تقرأ ما يعينها على تربية أبنائها، التاجر يقرأ ما يعينه على امتلاك أدوات النجاح، السياسي يقرأ في ميدانه، والطالب يعيش في تخصصه ليمتلكه ويعيد إنتاج الأسئلة التي قرأ عنها ضمن سياقه الخاص ليعيد التفسير والإجابة لاحقاً بمنتجٍ يعبِّر عن أصالة هذه الأمة وتميُّزها. فكلٌّ يقرأ ما يحتاج إليه في تخصصه وينطلق في القراءة من حاجاته الخاصة فالعمر لا يكفي والكتب كثيرة كثيرة، واتباع الموضات وملاحقة ما يقرأه الناس سيوقظنا على واقعٍ أشد مأساويةً مما نحن فيه اليوم بعد سنوات عشناها مع البكاء والدعاء فما أنتجت غير دعاء وبكاء.

القراءة هي الروح التي تسري في جسد أي أمة من الأمم، تسعى لتكون شيئاً في هذا العالم، فكيف ونحن نمتلك أعظم رسالة ربّانية وأقْوَم منهج هداية نريد توصيله إلى العالم؟ فبالقراءة نبدأ وبها ننتهي، ولكنها القراءة الواعية المنجزة، التي تنفع، وتؤسس للعمل بعيداً عن أوهام الحالمين ورؤى المتوهمين.

المصدر: هافينغتون بوست

التدوينات المنشورة تعبر عن رأي كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي زمن برس.