بقايا التعليم في العالم العربي

كل يوم نبحث عن مستقبلنا في أبنائنا، الذين يحملون أثقالهم على ظهورهم كل صباح متوجهين نحو الغرف المغلقة التي تسمَّى في بلادنا مدارس. نظام عسكري ابتداءً من الاصطفاف وليس انتهاءً بحالة الهروب مع قرع طبول انتهاء الحرب في نهاية الدوام في المدرسة لتبدأ المعركة من جديد في البيت.

في الوقت الذي تُبنى فيه قرارات التعليم في العالم المتقدم انطلاقاً من مسحٍ واستطلاعٍ ودراسات واستنتاجات علمية يقوم عليها خبراء في الإحصاء والتربية والتعليم، تترجم نتائجها بشكل عملي إلى قرارات تتابع، وتقيَّم حتى يتم التأكد من نجاحها، لا نزال نحن نتخبط بين العشوائية ورياء المظاهر. عشوائية في اتخاذ القرارات تنطلق من أمزجة شخصية ورؤى ذاتية لتقيم مستقبل الأجيال على هوى أفراد. ثم مظاهر مضللة تُبنى على صور ومرئيات فيها تجميد وتكبير للحظات تبدو نجاحاً لمن لم ينظر من جميع الزوايا ويعش حقيقة الواقع.

ما الذي بقيَ من التعليم في بلادنا العربية بعد سنوات من محاولات التحديث والتطوير، وبعد آلاف الأوراق التي حبِّرت والمشاريع التي صيغت والأموال التي بُذلت. نسأل ما الذي بقي ولا يمكن أن نسأل ما الذي أنجز، فالواقع الذي نعيشه لا يحتاج إلى تحليل بل هو مفصحٌ عن نفسه بكل سفور. تفيد تقارير الأمم المتحدة، أن نسبة الأمية في العالم العربي تصل إلى 19% حسب بيانات 2014، تكفينا هذه الإحصائية لنسأل أنفسنا ما الذي بقيَ من التعليم في عالمنا العربي. الذي يسكن فيه ما يقارب الـ70 مليون أمِّي!

سؤال التعليم دائماً يحيلنا إلى سؤال أساسي بعيداً عن أمية القراءة والكتابة إلى أمِّيات أكثر رسوخاً يعززها نظام التعليم العقيم، كالأمية السياسية والأمية الإدارية والتقنية والدين والعلوم ومهارات الحياة. تلك الأمِّيات التي لا تزال تعصف بنا وتدمِّر كل مقومات النهوض. المسألة الأخرى الملحَّة هنا هل نحن كأمة عربية مطالبون بالتفوق في امتحانات الرياضيات والعلوم الدولية، أم بالفوز في المسابقات الدولية التقنية، أم بالفوز بمسابقة أفضل معلم في العالم؟!

أمام واقعنا المدمَّر نجد أن كل هذه المظاهر والشكليات، من أدوات التضليل الكبرى التي نعيشها، فنحن لم نتفق بعد مع أنفسنا على ما ومن يصيغ فلسفة مناهجنا التعليمية، هل يصيغ هذه المناهج علماء الدين بمنهج القرآن والسنة بفهم سلف الأمّة الذين لم يقتنع بعضهم حتى اليوم بعد بحركة الأرض ودورانها، أم يصيغها علماء علمانيون فقدوا كل اتصالهم بثقافة الأمة ودينها وتراثها؟ هل نريد أن نؤسس لمستقبل عروبي أم إسلامي أم علماني؟

ماذا نريد أن يقدم التعليم لأجيالنا؟ تقنية، فلسفة، دعوة إلى الإسلام، علوم، مهارات. هل نجد اثنين من صنَّاع القرار في بلادنا متفقَين على الإجابة. أنا وأنت ماذا نريد أن يتعلم أبناؤنا؟ حفظ القرآن، أم صناعة روبوت أم غزو الفضاء أم أسابيب الزراعة الحديثة؟ الحقيقة المرَّة أننا استيقظنا على وهم كبير عشناه ولا نزال نعيشه، ويبدو أن أبناء الجيل القادم سيرثونه. وهمٌ كبير اسمه نظام تعليمي، لا يبدو في أغلب دول عالمنا العربي المتخلف أكثر من (أماكن لحفظ الأولاد من التشرد العشوائي). أو في حال أنتج شيئاً ذا بال ليكون إضافة لرصيد الدول الكبرى التي تستفيد من عقولنا المهاجرة ليكونوا قوةً إضافية تزيد من قدرتهم على السيطرة على العالم.

على الجانب الآخر نظرة وافية للمشروع الصهيوني في فلسطين (جارنا اللدود) من زاوية نظام التعليم فيه -على الرغم من أنه ليس الأفضل في العالم- ولكنه لا يزال يحقق نجاحات على مستوى العالم فجامعاته تدخل تصنيف أفضل الجامعات في العالم، طلبته يحققون نتائج متقدمة في الامتحانات الدولية.. مستوى راق من الخدمات التعليمية، ثورة في عالم الرياضيات.. وغيرها الكثير مما يوقظ كل الأسئلة الكبرى في قلوبنا، وأولها ما الذي ينقصنا؟ دولة مصطنعة بلا جذور ولا ماضي ولا مستقبل، ولكنها تصنع حاضراً مبهراً بكل ألم. علم مسخَّر لخدمة الإرهاب والتطرف والقتل والاستيطان ولكنه جزءٌ من حالة النجاح السياسي لتحقيق آمال وأحلام مجموعة من البشر. في ذات الوقت الذي نفشل فيه نحن بعقولنا ورسالتنا العظيمة وملياراتنا عن تحقيق جزء يسير مما نجح فيه هذا الكيان العابر.

ما الذي بقي من التعليم في عالمنا العربي؟

قناعتي أن ما بقي من المنظومة التعليمية في بلادنا هو مجرد حطام وبقايا لأنظمة مهترئة عفا عليها الزمن ولفظتها كل الأنظمة الحديثة، ابتداءً من فلسفة التعليم مروراً بالمنهاج (المعلم والمناهج والأدوات) وليس انتهاءً بأهداف التعليم التي لا تعبر عن واقعنا ولا حاجاتنا ولا ما نريده لمستقبلنا الذي لم نتفرغ بعد لنتفق على شكله.

فئة قليلة صابرة مخلصة من المعلمين هي ما بقي ليزرع الأمل في قلوب أبنائنا، ويتعاهد شيئاً من البذور علّها تظلُّ صالحة لتنبت زهراً مشرقاً في مستقبلنا، وعقولاً مبدعة مذهلة من أبنائنا، سيأتي اليوم الذي يكون لها فيه دورٌ عظيم في استنبات الأمل من جديد. وبقايا ماضٍ نأوي إليه ونتكئ عليه كثيراً، يذكرنا دوماً بأننا كنا في يوم من الأيام موئل طلبة العلم ووجهتهم الأولى لطلب العلم من كل دول العالم.

 

المصدر: هافينغتون بوست 

التدوينات المنشورة تعبر عن رأي كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي زمن برس.