على ضفاف جدّي في بحيرة طبريا !

طبريا

هل تسمح لي أن أخذ غيابك الى طبريا ؟

ولم تنتظر جوابي ، وتأبطت ذراع غيابي ، وراحت تتجول به في طبريا ، يتقن الفلسطينيون تحضير أرواح الغياب في مهارة نصفنا الذي بقي في البلاد لينصفنا ، ويمنحنا عسل عينيه ، لنذوق معه عن بعد ما فقدناه من بلاد لها حلاوة العسل ولسع النحل معا !

جلست في عسل عينيها ، ورحت أتجول في طبريا فماذا رأيت ؟

تصعدُ الى الناصرة لتهبط منها الى طبريا ، وفي الصعود والهبوط ، يحاول خيالك العاجز اقتفاء أثار معجزتين لمسيحك الفلسطيني ، واحدة في جبل القفزة اعلى الناصرة ، وواحدة على سكون البحيرة الازرق يمشي عليه السيد المسيح في منخفض طبريا ، وحين يمدّ لك الجليل كفه الاخضر يأخذك من اعلى الناصرة الى غور طبريا ، وانت تطيح بنظرية " العين لا تعلو على الحاجب " بين الناصرة وطبريا !

ويرتاح فضولك في منتصف الطريق ، بين الناصرة وطبريا على انقاض قريتك "السجرة " ، تطل على حنينك من فوق هضبة تتنفس مرج ابن عامر في حضن الناصرة ، وتمسح رطوبة حيرة بحيرة طبريا في حضن غيابك !

سأرى لك طبريا ...
تهمس لي عيناها ، وأنا انقب في ما تبقى من حجارتها البازلت السوداء عن بيت جدّي ، الذي تزوج ستي "هدية الطبري " ومات بين كفر كنا والناصرة بعيدا عن طبريا !
على جثة الجامع الكبير .. ثمة مقهى يتفرج على ظاهر العمر الزيداني بين بقايا ثلاث جوامع ، الجامع الفوقاني في الحي الشمالي من ما كان لنا من مدينة ، وجامع الجسر في غرب البحيرة ، تحاول حجارتها السود رواية تاريخ المدينة .
في المقهى الاسرائيلي على جثة الجامع ، بين سواد القهوة وسواد الحجارة ، يحاول " مشحّر " فلسطيني مثلي ان يحل اللغز بين حجارة حمص السورية السود وحجارة طبريا الفلسطينية ، وأنا ابحث عن دموع المرحومة أمي التي هُجرت من بيت عرسها في طبريا الى مخيم اللاجئين في حمص ، عرفت الان يا أمي سر دموعك ، وهي تنساب كلما رأت حجارة حمص السوداء ، للغربة قلب من حجر أسود يا أمي !

تعال لأغسل حنينك في حمامات طبريا لعلك تشفى من روماتيزم الغياب !

وأخذتني الى الحمامات الدافئة لكي أداوي في مياهها المعدنية صدأ في التاريخ يعيد المدنية الى عصرها الكنعاني الأول !

هيا انهض من رائحة الكبريت من حمامات طبريا ، لأشعل نار اشواقك تطلقها العابا نارية حول حيرتك على ضفاف البحيرة ثمة سمكة من " بلطي الجليل " او من " الشبوط " تنتظر شهوات غيابك في مطعم يغطس نصفه في البحيرة !

انت الان في حضرة البحيرة ، دع خيالك يمشي على سطحها الازرق ، ويبحث عن ما علق من نظرات جدّك وحنين أمك ، وحكايات والدك عن سمك في البال بطعم الزبدة لم يجد له مذاقا الا في طبريا !

حدّق في جبل الشيخ الذي يذوب وقاره ليتصبب حنينا في حضن البحيرة ، وبين الجليل والجولان اقرأ الفاتحة على من مات من أهلك خلف الهضبة وأمامها بين المخيم والوطن ، وقل لنصفك الذي يأخذ نصفك الى طبريا : شكرا !

وابحث عن الانصاف في هذا العالم ، الذي يستجم على بقاياك في طبريا ، ويفيض من قلبك الى نهر الاردن الذي ينسل من جنوب البحيرة ويموت في البحر الميت !

لا تبحث في سكون البحيرة عن علامات قيام الساعة ، اذا جف الماء فيها ، ولا تلتفت الى قوم ياجوج وماجوج الذين يشربون ماء بحيرتك ، ولا تشغل حيرتك بعلامات ظهور الدجال ، وثق بثمر نخل بيسان ، وبمحطة قطار قديمة في "سمخ " بين درعا وحيفا ، ستعد يوما حقائب عودتك !

قل لنصفك : شكرا لهذه " الطبريا " واصعد منها الى الناصرة ، واطلق قلبك عصفورا مع عصافير الجليل ، واهبط من عسل عينيها من رحلة السكّر !

التدوينات المنشورة تعبر عن رأي كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي زمن برس.