لا يوجد ما يسمى ثقافة شرقية

درور أتكس

نادرة هي الايام التي لا تنشر فيها هنا مقالات تعنى بالشرخ الطائفي ـ الطبقي داخل المجتمع الاسرائيلي، وبالجوانب المختلفة للنزاع الاسرائيلي ـ العربي. ويدور الحديث عن دائرتي بحث تجريان بالتوازي، وان كان الحديث يدور عن وجهين لذات التوتر ذي الاصل الواحد: اللقاء بين ثقافة المهاجرين وثقافة الاصيلين ـ الاقليمية. رغم الفوارق الهائلة في الظروف وفي النتائج ـ سواء اللقاء بين الصهيونية والفلسطينيين في البلاد أم اللقاء بين الصهيونية واليهود الذين جاءوا من دول عربية وإسلامية، فانهما نتيجة تسلل الغرب إلى داخل الشرق الاوسط في الـ 150 سنة الاخيرة.
يبدو أن الفصل الشديد بين دائرتي البحث هاتين محفوظ، كونه يخدم سواء المؤسسة الاسرائيلية التي ترى في تثبيت الهوية الاسرائيلية ـ اليهودية المنفصلة أساس دورها، أم مصلحة المتحدثين الشرقيين، الذين يفضلون تمييز أنفسهم عن العرب مواليد البلاد لاسباب واضحة. واللازمة الاليمة والاكثر احباطا، التي تميز قسما هاما من المتحدثين الطلقين للاحتجاج الشرقي الراهن (ممن اختار بعضهم المكوث في حضن الثوري الاجتماعي آريه مخلوف درعي، في مكان ما في مطارح العبث)، هي انعدام الفهم الصارخ لمقالات الغاضبين: فهم لا يفهمون بان معظم الناس، بمن فيهم الشرقيون ايضا، هم في الغالب ضحايا ومعتدين في آن معا.
ليس في هذا الفهم الاساس اي محاولة لاجراء نسبية في الالم او التشكيك باصالته. هذه محاولة لوضع الالم الانساني، وبشكل محدد الالم المفهوم لقسم لا بأس به من الشرقيين في اسرائيل، في السياق التاريخي والاجتماعي الاوسع. فهذا الالم هو ـ منذ بضع عقود ـ العامل المفسد والاكثر هدما في التجربة السياسية في اسرائيل، في أنه موجه لضمان حكم اليمين القومي ـ العنصري، الذي يرفع بفخار علم القمع العنيف للفلسطينيين.
لقد كان بث مسلسل «قوادون ومومسات» قبل بضعة اشهر فرصة ذهبية لنتبين مرة اخرى التمييز المصطنع بين البحث في المسألة الشرقية والبحث في المسألة العربية. وبينما كلمة «شرقي» ذكرت في المسلسل مئات المرات، فان كلمة «عربي» حامت هناك كل الوقت، ولكن كادت لا تذكر تقريبا. ففي اسرائيل تعد العنصري كلمة مثابة شتيمة. وعليه فان مفاهيم بسيطة ومفهومة مثل «يهود عرب» او «يهود من اصل عربي» توجد بعيدا عن قدرة الخيال الجماعي لمعظم الاسرائيليين.
وتبلغ المفارقة ذروتها عندما تقول احدى المشاركات في المسلسل، وعن حق، ان مفهوم «تقليدي» اخترع في اسرائيل وذلك لان الدين في العالم العربي هو جزء من التجربة العامة، والتقسيم القطبي بين المتدينين والعلمانيين ليس متجذرا، ولكنه يتجاهل أن المفهوم الاجتماعي «الشرقي» هو الاخر (والذي تدين له بمهنتها الإعلامية وشهرتها) هو اختراع اشكنازي ـ صهيوني. فقبل وصول يهود اوروبا ومعهم الصهيونية إلى الشرق الاوسط، لم يكن هناك مفهوم واحد يتناول عموم يهود الشرق الاوسط في نفس الوقت، وبالطبع لم تكن هناك هوية «شرقية» جماعية.
ولكن رغم نواقصه، فان هذا المسلسل هام، وذلك لانه يجسد مرة اخرى شيئا ما يمتنع معظم اليهود الاسرائيليين بمختلف مواقفهم عن رؤيته: المجتمع الاسرائيلي، بالتوازي مع السياقات المناهضة للعربية والعنصرية المتعاظمة فيه، يصبح بنفسه أكثر فأكثر عربيا من ناحية سلوكه السياسي. بمعنى ان مجتمعا يستبدل فيه مفهوم «المواطنة الحديثة بالولاء على اساس قرابة الدم والاصل، مجتمع فيه قدر أقل من حقوق الانسان وسلطة القانون، ومن جهة اخرى حضور الدين المؤطر في حياته السياسية آخذة في التعاظم والعنف السياسي في داخله يتصاعد. يتبين أن مئة سنة من الجيرة اقوى من الجدران التي تحيط بها اسرائيل نفسها.
واذا أخذنا بالحسبان حقيقة أن اصل معظم سكان اسرائيل هو بلدان الشرق الاوسط، فان هذه الانماط تتسلل ليس فقط من الخارج إلى الداخل بل توجد في داخل المجتمع الاسرائيلي. وذلك ببساطة لانه لا يوجد شيء كهذا يسمى «ثقافة شرقية». توجد ثقافة عربية ـ شرق اوسطية، كان الكثير من اليهود ولا يزالون بمفاهيم مختلفة لحما من لحمها، ناهيك عن أن قلبها النابض والوافر ـ اللغة العربية ـ فقدها معظمهم لشدة الاسف.
في الثقافة العربية، ثمة، بالفعل، مثلما في كل ثقافة اخرى، مزايا فائقة ومبعث اعجاب، والى جانبها بشعة ومبعث نفور. وسيكون من السذاجة الصبيانية التنكر لحقيقة أن الانماط السائدة في اجزاء واسعة من العالم العربي بالنسبة لادارة المجال السياسي المشترك تعود للمجموعة الثانية، تلك التي تعد احزاب اليمين القومي ـ العنصري ـ الديني وعلى رأسه الليكود، هي سفيرتها المخلصة في اسرائيل. وذلك بينما في نقيض المفارقة نجد أن حزبي «حداش» (الجبهة الديمقراطية) و «بلد» (التجمع الديمقراطي) المدعومين اساسا من المواطنين العرب يكافحان في سبيل قيم تطورت في الفكرة السياسي للغرب (الفكر الذي أنبت بالتوازي البربرية عديمة السابقة أيضا.)
وها هي التفافة اخرى في قصتنا الجماعية، مما يسخف موقف الاغبياء والعنصريين، الذين يعتقدون بان السياسة ترتبط بشكل ما بالجينات. السياسة هي تعبير واحد للثقافة الانسانية، التي تتصمم في الظروف الخاضعة لتغيير مستمر.

هآرتس
 

حرره: 
م . ع
كلمات دلالية: