سوق البالة في غزة..ليس للفقراء فقط !

سوق البالة

زاهر الغول

(خاص) زمن برس، فلسطين: في زمن ليس ببعيد عن وقتنا الحالي كان الغزيون يشعرون بالحرج من التوجه إلى "سوق البالة"، وهو السوق الذي تباع فيه الملابس المستعملة التي يتم جلبها من إسرائيل والتي تستوردها بدورها من البلاد الاجنبية، وهو ما يشتهر به أيضاَ "سوق فراس" وسط مدينة غزة، فمن المعروف أن زبائن هذا السوق هم "الفقراء والمحتاجون" الذين لا يستطيعون شراء ملابس جديدة بثمن غالٍ،  فيوفرون مالهم لطعامهم أولا، غير أن الظروف تبدلت هذه الأيام، فأصبح زبائن هذا السوق من كافة شرائح المجتمع، الفقراء والأثرياء لعدة أسباب، منها ما يتعلق بالفقر ، ومنها ما يتعلق بتوفر الماركات العالمية بأسعار منافسة لمثيلاتها التي تتوفر في المحلات التجارية الجديدة، وما يصاحبها من أسعار "باهظة الثمن".

ويتناسى كثير من رواد "البالة" أن الملابس التي يشترونها مستخدمة من قبل، في سبيل المميزات التي تقدمها لهم، خاصة الماركات العالمية والتي بالكاد يجدها الغزييون في محلات البيع وما يصاحبها من "غلاء وحشي" في أسعارها، في حين لا تتعدى أسعار هذه الماركات للقميص (10 شواكل فقط) وكذلك البنطال لا يتجاوز (20 شيكلا) الذي يضاعف سعر الجديد منه خمس مرات يصل الحد الأدنى منه (100 شيكل)، بعد مفاصلة طويلة مع البائع.
أغلب تجار البالة المتمركزون في سوق (فراس) ورثوا هذه المهنة عن آبائهم، حيث أنهم يقدرون عمرها بما يزيد عن 65 عاما، من عمر النكبة الفلسطينية، التي اشتهر وقتها اللاجئون إلى قطاع غزة بالفقر بعدما تركوا منازلهم عنوةً، دون أن يتمكنوا حتى من أخذ المال لإنقاذ أنفسهم في ظروف الحياة الصعبة.
ويجمع التجار بأن آبائهم امتهنوا المهنة لتوفير سوق للفقراء يمكنهم من شراء الملابس بثمن بخس يكون باستطاعتهم كساء أنفسهم بأقل الأموال، موضحين أن سوق البالة انتعش مجددا منذ ما يقارب 15 عاما، وذلك عقب انتفاضة الأقصى عام 2000، وتزايدت بشكل ملحوظ بعد تشديد الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2006، وما نتج عنهما من منع العمال من الذهاب إلى عملهم في أراضي 1948، وانتشار الفقر بين شريحة كبرى من أهالي القطاع نتيجة البطالة.

يتفاخر أشرف الهسي (40 عاما) الذي يعمل في محلات السنداوي للبالة، وسط مدينة غزة، بنوعية الملابس التي يستجلبونها عبر معبر كرم أبوسالم إلى قطاع غزة، مؤكدا انها ماركات عالمية يُقبل عليها المواطنون ومن بينهم الموظفون الذين كانوا يخجلون في السابق من الشراء منهم أو يقبلون عليهم ولكن باستحياء "ولكن هذا المفهوم تغير اليوم" يقول الهسي لزمن برس.

ويصر الهسي " هذه الملابس أفضل من غيرها بكثير، فهي ماركات عالمية مثل لاكوست بولو، ليي، ديدورا، توم كروكر رالف لوبين، اديداس، نايك"، وراح يشرح كيفية استحداثها لتكون صالحة للاستخدام مجددا " كل ما تحتاجه هذه الملابس هو غسلها وكويها بعد فرزها فور وصولها، بعدها نعرضها على الزبائن الذين غالبا لا يشتكون منها بل يحضرون إلينا يبحثون عن موديلات جديدة".

ويتم استحضار الملابس البالة، من عدة دول أوروبية وذلك عبر شرائها مع تجار أوربيون يتعاملون في البضائع المستعملة، ويقومون بعرض بضاعتهم للتجار الغزيين عبر صور يرسلونها عبر الانترنت، وإذا ما تم الموافقة عليها يتفقون على السعر ومن ثم يتم شحنها لميناء اسدود لتدخل قطاع غزة عبر معبر كرم أبو سالم.

غير أن عقبات تواجه هؤلاء التجار، حيث أن إسرائيل غالبا ما تغلق المعابر بين فترة وأخرى، وهو ما يجعل بضاعتهم محجوزة لعدة أيام على المعابر، والتي تحتاج إلى "ضريبة أرضية"، لتبقى مؤمنة لهم، يضطر على إثرها التجار إلى رفع الأسعار لتعويض الضريبة وهو ما يتذمر منه المواطنون.

الموظف كمال محمد (35 عاماً) كان يتجول في محلات البالة يبحث عن ملابس ذات جودة مناسبة وبأسعار قليلة، لم يكن ليفعل ذلك سابقا، "أما اليوم فلا بأس، الظروف تبدلت" يقول لزمن برس وهو يبتسم، قبل أن يضيف" الاسعار هنا منخفضة، والجودة عالية مقارنة بنوعية الملابس المتواجدة بالسوق العادي، والتي غالبا ما تكون من الصين ذات الجودة المنخفضة، إضافة إلى أننا قد نحصل على بعض الملابس الجديدة من الماركات العالمية وباسعار منافسة وكذلك غير مستعملة".

كل هذه الأمور هي ما شجعت كمال على القدوم بشكل دوري إلى سوق البالة، لعله يخفف عن نفسه من أعباء الحياة اليومية، والتي يوفر من خلالها لما يسد به التزامات أخرى من طعام وشراب وفاتورة كهرباء وماء، وفواتير الاتصالات وغيرها الكثير من الالتزامات الأساسية التي بالكاد يستطيع الموظفون توفيرها في ظل الحياة الاقتصاية الصعبة.

وراح يشرح لزمن برس وهو يمسك بيده جاكيت جينز التقطه من مجموعة من الجاكيتات المعلقة على شماعة الملابس، والذي بدا بحالة ممتازة وأنيق، :" هذا الجاكيت ماركة عالمية اشتريته ب15 شيكل فقط، هو ذاته سألت عنه قبل عدة أيام طلبوا مني 100 شيكل بعد مفاصلة طويلة بيني وبين البائع"، ويضيف ممازحا :" مش أولادي أبدى في المصاري؟!".

كذلك الحال بالنسبة لسليم الحساينة (30 عاما) الذي لم يعد يشعر بالحرج من تسوقه في "البالة" مقابل أن يظهر بملابس راقية وجذابة وتعمل اسم ماركات عالمية، حتى وإن كانت من البالة، كما قال في حديثه لزمن برس.
ويضيف:" كانت انتشار هذه الأسواق مقصورة على الفقراء ولكننا اليوم جميعنا في الهوا سوا!"، متابعا:" اليوم أنا أبحث عن الجودة التي غالبا ما افتقدها في الأسواق العادية".

وانتشرت محلات البالة في أغلب محافظات قطاع غزة، في حين كانت في السابق تقتصر على سوق فراس فقط، وتتميز بزبائن معينين، حيث يعكس هذا الانتشار الواسع ل(البالة) حالة البؤس التي يعيشها الفلسطينيون في قطاع غزة، في ظل ارتفاع نسب الفقر والبطالة نتيجة للحصار المفروض عليهم منذ 6 سنوات، خاصة في ظل الارتفاع الكبير في الأسعار نتيجة ندرة البضائع المستوردة في القطاع، وقد تجد طائفة من المواطنين حتى من ذوي الدخول المتوسطة ضالتهم في سوق الملابس القديمة بدلًا من الجديدة.
 

حرره: 
م.م