دفق الفتاوى وغنيمة الحكم

في مصر، تزدحم الفتاوى وتصطدم، فتتبدى جليةً، خِفةُ التدين مع ضآلة العلم بالدين. وكان الدَفَق سريعاً، أي قبل أن تبدأ فترة اختبار السلوك في الحكم. وجاءت المفارقة الطريفة، وهي أن تسديد الضربات بالفتاوى، بات يستهدف المؤمنين. بعضهم يقذف بها بعضاً، أكثر مما يرمي المارقين عن قوسه الطاهرة! في كتاب السُنن، لعبد الرحمن الدرامي، نُقل عن سيدنا محمد، صلوت الله وسلامه عليه، قوله: "أجرؤكم على الفتيا، أجرؤكم على النار". ولجسامة مسؤولية إصدار الفتاوى، وردت في "جامع بيان العلم" لابن عبد البر، قصة قصيرة مشوّقة، مشحونة برمزية بالغة الدلالة، وهي أن رجلاً موصوفاً بالتهور (اسمه البراء بن مالك، شقيق أنس) كان مع مئة وعشرين من الأنصار الذين صاحبوا رسول الله عليه السلام، وكلما سئلوا عن أمر للإفتاء فيه، كان واحدهم يحيله الى أخيه، ثم يحيله أخوه الى آخر. ويدور السؤال على المئة وعشرين صحابياً، واحداً واحداً، حتى يعود الى الأول ثم يبدأ الدروان من جديد، دون أن يجرؤ واحد على النطق بالفتوى، لجسامة مسؤولية إصدارها وإلزام الناس بها.

معنى ذلك أن الرجل "المتهور" نفسه، البراء بن مالك، الذي كان الفاروق عمر رضي الله عنه، يوصى بعدم توليته قيادة الجيش، لأن تهوره سيدفع بالجنود الى الهلاك؛ لم يجرؤ على إصدار فتوى جواباً عن سؤال! لكن الشيخ السلفي الشهير محمد عبد المقصود ـ كمثال ـ وهو يؤيد مرشح "الإخوان" مخالفاً جماعته، يُفتي للشُبان بلا حرمة القيام بسرقة البطاقات الانتخابية الخاصة بالآباء والأمهات، إن كانوا سيمتثلون لمجلس شورى "حزب النور" وينتخبون غير المرشح محمد مرسي. والعجيب، أن معظم الشيوخ الأكثر تجرؤاً على الفتوى، كانوا هم أنفسهم، الذين أفتوا ضد الثورة، وضد عصيان ولي الأمر. وعبد المقصود هذا، كان على الدوام، مع السلطة الماكثة ومع السلطة المتوقعة، وبدا أنه يحجز لنفسه دوراً بين أهل الفتوى، في الحكم "الإخواني" المأمول. ويتعرف المصريون من خلال فتاواه، على الطابع الذي سيكون عليه الحكم، في حال هيمنة الأحزاب الإسلامية على البلاد والمجتمع. والناس تتذكر واقعة مضت منذ وقت قريب، عندما أفتى عبد المقصود هذا، بأن ثوار ميدان التحرير، عبارة عن "بلطجية" ومدمني مخدرات و"ترامادول" ثم أصدر فتوى بتأثيم البنت، التي أقدم جنديان على سحلها وتعرية صدرها، على النحو الذي استنكرته قيادة الجيش نفسها، فقال موضحاً نقطة الحسم في الفتوى: إنها خالفت الشرع ولبست قميصاً بـ "كبّاسين"!

* * *

 دَفَقُ الفتاوى، يتكثف ويتعارض، قبل أن يبدأ "التمكين" وينم عن سمات المرحلة إن وقع "التمكين". فإن قيل إن رئيس الجمهورية، لا ينبغي أن يكون له مرشداً ولا يصح أن يُقبّل يد هذا المرشد، تتحرك الفتوى لإعفاء مرشح "الإخوان" من "قيود" البيعة، في فترة الرئاسة، لكن السامعين لا يصدقون، ويؤكدون إن تقبيل "اليد الشريفة" سيكون في الخفاء، مثلما ظلت في الخفاء، في هذه الفترة، وثيقة "فتح مصر" التي أعدها خيرت الشاطر في العام 2005. ففي تلك الوثيقة، اعتبرت "الجماعة" كل من هم خارجها وليسوا معها، كفاراً، حتى وإن كانوا من الإسلاميين، الأمر الذي أوجب التوجه الى "فتح جديد" للبلاد! المراقبون من المجتمع المدني، يتساءلون: إذا كان هؤلاء يفْتون على هذا النحو، ويرون الإسلاميين من غير جماعتهم، على هذه الشاكلة، فماذا هم فاعلون بالآخرين؟ هذا المنحى، الذي أوصل الفتوى الى مستوى القول بوجوب أن يسرق الشُبان الأغرار، حتى رأي الأبوين في شأن الحياة وولاية الأمر، والى ما يؤكد على النية في تأسيس استبداد جديد باسم الدين، ويدفع الى إصدار الأحكام الضدية القاطعة على خلق الله؛ لا يبشر بالخير ولا بالديموقراطية التي يتعطش لها المصريون! في هذا السياق، وقف شيخ من أعضاء شورى "الإخوان" اسمه علي بطيخ (والاسم ليس من عندنا) ليقول مُفتياً من على منبر مسجد في الفيوم، إن المرشحين الليبراليين كفرة، وأن محمد مرسي "الرجل الطيب المؤمن المسالم" هو شبيه عمر بن الخطاب. هنا، يؤكد الشيخ بطيخ، على ما قلناه عن الخطر الماثل على الإرادة الشعبية والديموقراطية، وبخاصة حين يقول إن "الجماعة" ومعها جمهورها، ستنـزل الى الشارع، إن لم ينجح مرسي! طمعاً في غنيمة الحكم، يتجرأون على الفتوى، التي لم يجرؤ عليها مئة وعشرون صحابياً كانوا مع أخيهم الشجاع البراء بن مالك، صاحب رسول الله (عليه صلوت الله).

لكن عبد المقصود وبطيخ وسواهما، يتجرأون. إنه شطط الفتوى الذي أرسى تقليده، في زمننا الراهن، عمنا الشيخ القرضاوي، قاهر السحاب!