أوراق صهيونية
ومع أن هذا “الاستقبال الصهيوني” ليس الأول على هذا الشكل لساسة ودبلوماسيين أمريكيين يقدمون إلى المنطقة بهدف إحياء ما يسمى “العملية السلمية”، لكنه يكشف حقيقة التحرك الأمريكي المتناقض، باعتبار الاستيطان سياسة مقوّضة لهذه العملية التي لا يمكن أن تستقيم على ازدواج بين قاطرة الاستيطان الكاسحة لما تبقى من الأراضي الفلسطينية وبين تسويق الكلام الأمريكي عن أهمية كسر جمود الأوضاع لمواجهة هذه الأزمة المتداعية .
لكنها ربما كانت المرة الأولى التي يثار فيها التساؤل: أليس لدى الولايات المتحدة أوراق ضغط على “إسرائيل” لحملها على عدم الاستمرار بهذه الصلافة الاستيطانية، وعلى الأقل في ظل التحرك الأمريكي تحت مظلة استعادة التسوية السلمية؟
بالطبع كان هناك من ذهب إلى القول بالإجمال إن “إسرائيل” أصلاً هي ورقة أمريكية، لأن كيانها قائم على الدعم والحماية الأمريكية، هناك الدعم الاقتصادي والعسكري النوعي، وقائمة الأوراق الأمريكية كثيرة بالنظر إلى طبيعة العلاقة الأمريكية “الإسرائيلية” وهي فوق الاستراتيجية . أصحاب هذه النظرة يقولون إن الإدارة الأمريكية لا تستخدم أوراقها تجاه “إسرائيل” في شأن أزمة المنطقة، مع أن هذه الأزمة ذات تأثير في المصالح الأمريكية وعلى الأقل في صورتها وسمعتها المرتبطة بالسياسة الصهيونية التي تُكَرَّس ضد الشعب الفلسطيني بجرائم ضد الإنسانية .
الأمر لا يعود فقط إلى فعالية اللوبي الصهيوني البالغ التأثير في مراكز القرار الأمريكي، بل لأن “إسرائيل” تمتلك أوراق لعب وتلاعب أهم من الأوراق الأمريكية في شأن سياستها، وأبرز هذه الأوراق راهناً الانقسام السياسي الفلسطيني الساقط على الأرض بين الضفة الغربية وبين قطاع غزة من جهة، والتفكك العربي بما آل إليه من حالة رمادية، وما آل إليه الوضع إثر رمي كامل البيض العربي في السلة الأمريكية بما كان من نتائج خادعة من جهة ثانية . “إسرائيل” تلعب وتتلاعب بما هي عليه الأوضاع الفلسطينية والعربية، فما الغرابة من استقبال “إسرائيل” وزير الخارجية الأمريكية جون كيري بوصفة جديدة من المشروعات الاستيطانية؟
ومن هذه النقطة يمكن النظر إلى جولة كيري الأخيرة بمكوكيتها التي بدت ماراثونية، وفي مشاهد كاريكاتيرية تنقّل خلالها بين عمّان و”تل أبيب” مرات عديدة، وبين لقائه رئيس الوزراء “الإسرائيلي” ثم العودة إلى لقائه، ما أدى إلى رواج تفسيرات واحتمالات عديدة في البدء، وبعد عودته من لقاء عباس في عمان للقاء نتنياهو الذي كان قد التقاه قبل ساعات قليلة، قيل إن هذا يحتمل أن كيري حصل على موافقة فلسطينية من عباس بشأن العودة إلى المفاوضات، لكن، بعد عودته من “تل أبيب” إلى عمّان مرة ثانية كان هناك من فسر الأمر على أن كيري فشل في إقناع الفلسطينيين، وهو كذلك فشل في الحصول على تنازلات “إسرائيلية”، والأمر هكذا استمر حتى إعلان كيري عن أن لقاءاته مع الطرفين حققت تقدماً في تضييق الخلافات، وأن نجاح مهمته يحتاج إلى فرصة جديدة، ولهذا سيعود في جولة جديدة وفي فترة قصيرة .
مراقبون رأوا أن جولة كيري الماراثونية والمكوكية لم “تنجح” ولم “تفشل”، وهذا يتطابق وتوجهاته القائمة على إطلاق “حركة من دون نتيجة جوهرية” .
العودة إلى المفاوضات من دون شروط، هذه هي القضية التي تدور عليها الحركة الدبلوماسية الأمريكية الناشطة، وهي كما يشاع مفتوحة على مؤتمر رباعي يعقد قريباً ويضم الفلسطينيين و”الإسرائيليين” والأمريكيين والأردنيين وينعقد في العاصمة الأردنية . أحد لا يعلم حتى الآن هل تكون هذه القمة بنتائجها بديلة لخطة خريطة الطريق التي ماتت عند ولادتها بإجهاض “إسرائيلي” وتواطؤ أمريكي؟ أو أنها محاولة لقطع الطريق أمام الدعوات إلى مؤتمر دولي للسلام يعيد الاعتبار لمبدأ الأرض مقابل السلام وقرارات الشرعية الدولية؟
في أي حال، الزيارات الأمريكية محاولات لشراء الوقت الذي يخدم الاحتلال لا بوجوده، بل بسياسته وبالذات الاستيطانية، ومحاولة من جانب الإدارة الأمريكية لاستعادة زمام الأمور في شأن الترتيب الأمريكي للأوضاع الفلسطينية، وهو ما يرتبط بالاستفراد الأمريكي لا في شأن هذه الأزمة، بل والمنطقة منذ سنوات طويلة .
في هذا الاتجاه أطلق وزير الخارجية الأمريكية ما صار يعرف ب”السلام الاقتصادي” الذي يقدم “إغراءات” للفلسطينيين في إحداث نقلة في حياتهم واقتصادهم ويدفعهم إلى التنازل عن القضايا السياسية . إغراءات كيري تبلغ أربعة مليارات دولار، وهو قدّم أرقاماً عن النتائج التي ستتحقق في فترة وجيزة تتداعى فيها البطالة إلى حد أدنى، ويرتفع دخل الفرد الفلسطيني مستويات كبيرة .
كيري لم يتوقف عن ترديد قوله إن هذا لأجل الفلسطينيين، لكن حقيقة حصيلة هذا الاتجاه هي صفر، لأن كيري يكرر ما كان نتنياهو يحاول تسويقه في هذا الاتجاه، وقوبل فلسطينياً بالتمسك بالحل القائم على دولتين .
بالطبع، الأمريكيون من خلال توجه “السلام الاقتصادي” لا يعيدون إنتاج ربط الاقتصاد الفلسطيني بالكيان الصهيوني الذي سيكون بإمكانه “الاستمرار في التحكّم بدورة الحياة اليومية للفلسطينيين” فقط، بل إنهم يرسمون ملامح وقواعد الوضع الفلسطيني المراد أمريكياً ترتيبه والتحكم بمجمل مجالاته .
ما الذي ساعد على هذه “الشقلبة” الأمريكية للأولويات؟ أليست الأوضاع الفلسطينية والعربية؟