مذبحة قبيّة التي أعادت لجيش إسرائيل «احترامه»

بقلم: 

في شهر كانون الأول/ ديسمبر من عام 1953، تمّ تعيين موشي ديان لشغل منصب رئيس الأركان الرابع للجيش الإسرائيليّ، وكان يحظى بثقة رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك دايفيد بن غوريون. رأى ديان ضرورة في تطوير أساليب الهجمات الانتقاميّة التي ينفّذها جيشه بغية دفع الدول العربيّة إلى مضاعفة جهودها الرامية إلى منع أعمال التسلّل التي كان ينفّذها الفدائيون. ومن أجل هذه الغاية، اعتقد ديان بوجود حاجةٍ ملحّةٍ لإحداث تغييرٍ جذريّ في قدرات جيشه القتالية ومهاراته العملياتيّة.
ديان عثر على مُراده، في وحدةٍ صغيرةٍ من المقاتلين، معظمهم من المتطوعين، كان يقودها أرائيل شارون، وأطلق عليها اسم: «وحدة 101». وعن تلك الوحدة، كتب مئير هارتسيون، وهو أبرز جنودها الذي قلده ديان لقب «الجندي الأكثر شجاعةً في الجيش الإسرائيلي»: «كنا مجموعة مقاتلين، ولم نكن جنوداً نظاميّين».

«الوحدة 101»
تأسست الوحدة في 5 آب/ أغسطس 1953، بعد فشل الجيش الإسرائيليّ بمنع هجمات الفدائيّين. نفذت أولى عملياتها الكبرى في ليلة الثامن والعشرين من الشهر ذاته، لمّا اقتحمت مخيم البريج للاجئين في قطاع غزة.

استذكر الجندي شموئيل نسيم هذه المجزرة الأولى الكبيرة التي نفّذتها وحدته في شهادةٍ متلفزة: «عندما ذهبنا إلى هناك، كان واضحاً أننا ذاهبون لإطلاق النار على خيام، وبيوت، وعرائش. لم تكن لدينا أيّ إمكانيةٍ لرؤية من سيتم إطلاق النار عليهم. وسادت فرضية أننا على الأرجح نصيب بالرصاص أشخاصاً يستحقون ذلك».
أما هار تسيون، قائد القوّة التي نفّذت المجزرة، فكتب في مذكراته: «لقد كنا مسرعين بين البيوت، وكان البشر يتراكضون من الخوف في الأزقة الضيقة. رميات رصاصٍ متقطعة كانت تُسمع من كلّ اتجاه، تختلط بالعويل الفظيع المنطلق من بين البيوت. هل هذه الجموع من البشر التي يتصاعد منها هذا الصراخ والعويل، هم العدوّ؟ بماذا أخطأ هؤلاء الفلاحون؟». وكانت حصيلة تلك الليلة الدامية، مقتل حوالي أربعين من سكان مخيم اللاجئين.
«الوحدة 101» ظلت قائمة لخمسة شهور فقط قبل دمجها بـ «كتيبة المظليين». معسكرها كان في القدس، وعملياتها لم تكن كثيرة، ولكنها، حدّدت مستوىً قتاليّاً جديداً للوحدات القتالية للجيش الإسرائيليّ، وتحوّل مقاتلوها إلى أساطير تقع محل إجماعٍ في المجتمع الصهيونيّ، ونموذجاً يقتدي به المظليون وكلّ شبيبة إسرائيل.
في 26 تشرين الأول/ أكتوبر 1953، أدّى انفجار قنبلة قذفها فدائيون إلى مقتل عدة أشخاص في مستوطنةٍ يهودية تبعد عدة كيلومترات عن تل أبيب. لامتصاص غضب الجمهور بعد فقدانه الشعور بالأمن الشخصيّ، اتخذت الحكومة الإسرائيليّة قراراً بتنفيذ عملية انتقامية، ووقع الاختيار على قرية قبية الواقعة شرقي المستوطنة كهدف.
130 جندياً، و700 كيلو متفجّرات
جاء في نصّ التعليمات العسكريّة الصادرة عن هيئة أركان الجيش الإسرائيليّ، المكتوبة بخط قائد الوحدة أرائيل شارون، أن الهدف من العملية هو: «احتلال قرية قبية وإلحاق أكبر كمّ من الخسائر البشرية وفي الممتلكات».
وقال شارون في شهادةٍ أدلى بها للتلفزيون الإسرائيلي: «ديان قال لي: أنا أرى أنكم مصرّون على تنفيذ العملية. فقلت له: بالطبع، وسيتم تنفيذ هذه العملية. أجابني: إذا كان ذلك صعباً، فعليك الاكتفاء بتفجير بيت في طرف القرية. فقلت له: نحن على وشك تنفيذ العملية بناءً على التعليمات التي صدرت لنا، والعملية سيتم تنفيذها حتى النهاية».
بعد يومين من الهجوم على مستوطنة يهود، اقتحم مقاتلون من «الوحدة 101» وكتيبة المظليين بيوت القرية. شارك في المجزرة، التي تحرص الأدبيات الإسرائيلية حتى الآن على تسميتها بـ «عملية شوشانا»، 130 جنديّاً، حملوا معهم حوالي 700 كيلوغرام من المتفجرات. ثلث الجنود كانوا ينتمون للوحدة 101، من الكتيبة 890 التابعة للمظليين. وقد قاد القوة المشتركة شارون.
لم يتم تنفيذ التعليمات الخاصة باقتحام قرى شقبا ونعلين. بدلاً من ذلك، تم إطلاق النار عليها للتمويه. وصل الجنود إلى قبية، وانتقلوا من بيتٍ إلى آخر وهم يقذفون القنابل ويطلقون النار من الأبواب والنوافذ نحو الداخل. لم يتعرّض الجنود لأيّ إطلاق نار، فالقرية لم تكن تحوي مسلحين. ثم أشرف خبير المتفجرات التابع للوحدة على تفجير خمسة وأربعين منزلاً على رؤوس من فيها. أحد المشاركين في المجزرة روى كيف تمّ تفجير منزلٍ، رغم وجود امراة وطفليها داخله. وفي الصباح، تبيّن له أن 69 شخصاً من سكان قبية قتلوا، جزءٌ كبير منهم من النساء والأطفال الذين اختبؤوا في المنازل.

إسرائيل تنفي وتبتسم
الصدمة التي تلت المجزرة كانت كبيرة. وانطلقت موجة تنديد في العالم ضد إسرائيل. وبسبب الضائقة التي ألمت بالحكومة الإسرائيلية إثرها، قرّرت تلك الأخيرة إنكار مسؤوليتها عن المذبحة. وأعلن بن غوريون عبر الراديو عدم مسؤولية جيشه عن تنفيذ المجزرة، قائلاً: «لقد أجرينا فحصاً دقيقاً، واتضح لنا عدم تغيّب أيّ وحدة عسكرية عن قاعدتها ليلة العملية، الهجوم على قبية».
وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك موشى شاريت كتب في مذكراته: «كنت سأستقيل لو تمّ تكليفي بالوقوف خلف المايكروفون، لأقول للشعب القابع في أرض صهيون وللعالم روايةً مختلقةً عن أمر حدث بالفعل. لكن بن غوريون فعل ذلك».
نائب قائد وحدة 101، شلومو باوم، قال في شهادة أدلى بها عن المذبحة خلال حديث صحافي: «عندما التقيت أنا وشارون مع بن غوريون وكان عدد القتلى في عملية قبية قد اتضح، قام رئيس الحكومة احتراماً لنا وقال: يا رجال، أنا أريد أن أبارككم بسبب فعلكم المبارك. للأسف، ليس بمقدوري فعل ذلك في العلن».
على الرغم من أن عدداً من المؤرخين الإسرائيليين اعتبر أن المجزرة تسببت بضرر سياسيّ لإسرائيل، فقد اعتُبر في أوساط الجيش الإسرائيلي أن قتل 69 قروياً يشكّل عمليةً عسكريةً ناجحة. وقال رئيس أركان الجيش آنذاك، موشي ديان، إن «هذه عملية عسكرية من الدرجة الاولى، الثقة بالنفس عادت للجيش الإسرائيلي».
أما شارون، قائد الوحدة 101، فوصف المجزرة بقوله: «أنا أعتقد أنها كانت لحظة تحوّل. فجأة، اتضح وجود أداةٍ عسكريّةٍ قادرةٍ على التنفيذ. وأجد أن ذلك أمر هام على المستوى السياسيّ الذي صار يملك أداةً عسكريّةً يقدر على استخدامها».
بعد المجزرة، تم تكليف شارون بقيادة «كتيبة المظليين» في الجيش الإسرائيليّ، شرط أن يزرع فيها روح «الوحدة 101»، التي تم حلّها. أحد المظليّين الذي قادهم شارون تحدّث إلى التلفزيون الإسرائيلي عن تلك الفترة من حياته، قائلاً: «لقد كان الأمر ممتعاً، أن تخرج لتنفيذ عمليات وتقتل، ثم تعود بسلامٍ للمدنيّة مرتدياً الزيّ العسكريّ».
وصفت المراجع الإسرائيلية ردّ فعل العالم على المجزرة بالصعب جداً، مشيرة الى أن الصحافة العالمية أدانت المجزرة وأظهرت إسرائيل كدولة تبحث عن الحرب والعنف، وأعربت دول كثيرة عن احتجاجها على استهداف المدنيين. أما مجلس الأمن والهيئة العامة للأمم المتحدة فقد وبخا إسرائيل التي كرّر سفيرها هناك، أبا إيبا، مزاعم بن غوريون عن المجزرة التي نفى مسؤولية جيشه عنها.
في مقالٍ عنوانه «العملية التي أعادت لجيش الدفاع الإسرائيلي احترامه»، نشرته صحيفة «يديعوت أحرنوت» بعد مرور 39 عاماً على المجزرة، أن شارون كشف أن بن غوريون قال له: «أنا لا أرى أهميةً جديّةً لما سيقال عن عملية قبية في أرجاء العالم. المهم كيف سيُرى الأمر في منطقتنا، وهذا سيُمكّننا من العيش هنا».