لأنّ حياة واحدة لا تكفي!

ألاء حمدان

إن قدرة أدمغتنا على استيعاب المعلومات، هي قدرة لا نهائيّة، فلا يوجد خطّ نهاية يخبرك به عقلك أنّه لا يتّسع لمزيد من المعلومات.

عجيبة هذه المعجزة في الجسم البشريّ. إن كان فِعلاً قد استفحل على عقلٍ ما استيعاب معلومات أو تذكّرها باستمرار أو القدرة على تحمّل المزيد فإنّه يُلقّب بالعقل الهَرِم أو العجوز أو يوصف بأحد الأمراض، فإذاً الحالة الطّبيعيّة للعقل هي اللّانهائيّة.

انتشرت قديماً أسطورةً من بعض العلماء تقول، إنّ الإنسانَ الاعتيادي يستخدم فقط 10% من كامل دماغه، أي أنّه لا يستغلّ 90% الباقية. لطالما استوقفتني هذه المعلومة وقلت "كم خليّة من دماغنا حقّاً نُفَعِّل؟ وكم زاوية من أدمغتنا مهجورة؟".

ويبدو أنّ هذا السّؤال يحيّر غيري أيضاً، فعلى الرغم من أنّ معلومة 10% غير مثبتة وغير صحيحة، إلّا أنّ المخرج، لوك بيسون، في فيلمه الشّهير "لوسي"، بنى كامل أحداث الفيلم على تخيّل "ماذا لو استخدم الإنسان 100% من عقله؟"، وأبهرنا بالنّتائج. وكذلك المخرج نيل بيرجر في فيلمه "ليميتليس"، والذي يُظهر قدرات خارقة لذكاء رجل يتناول دواء معيّناً يُحفّز دماغه على استخدام 90% بدل من 10%.

يقول العالِم، بول ريبير، إنّ أحد طلّابه أراد الخروج من المحاضرة بحجّة أنّ رأسه صغير، وبالتّالي حجم دماغه أصغر من باقي الطّلبة، ولم يعد يحتمل المزيد من المعلومات. في ذلك الحين أجرى العالِم دراسة على الدّماغ، وتكلّلت النّتائج المذهلة بالتّالي: "لو تخيّلنا العقل البشري كفيلم يجري دون توقّف، فهو إذاً فيلم يتكوّن من 300 مليون ساعة تلفازيّة. أي لتعرض جميع ما تملكه من معلومات فإنّك تحتاج أن يعمل التّلفاز مئات من الأعوام المتواصلة لعرض ما يحمل دماغك من معلومات. فلك أن تقدر قدرة دماغك الهائلة. برأيك الآن، كم ساعة تلفازيّة يستطيع دماغك أن يُقدّم لنا؟

ولكن في طبيعة الحال، لا يوجد قياس علمي دقيق لماهيّة الذّكريات والتّفكير والوعي واللّاوعي والنّسيان. لم يصل الإنسان بعد، لآلة تحسب هذه البلايين من الخلايا وما تحتويه كلّ خليّة من معلومات وذكريات، وخلايا سمينة أخرى.

في كلّ الأحوال، إنّ هذه القدرة الهائلة أراها رسالة إلهية، أن لا نتوقّف يوماً عن التّعلّم والبحث والدّراسة. يقولون "الحياة مدرسة"، ولكن برأيي الحياة: هي صفّ واحدٌ فقط لا غير، بينما الصّفوف الأخرى تختارها أنت. إن كنت طالباً للحياة فقط، فقد تعلّمت فنّ تناول الطّعام وقطع الشّارع والتّوقف على الإشارة الحمراء وعدم الرّكض أثناء لبس الكعب العالي. وإن كان والدك نجّاراً تعلّمت النّجارة، أو والدتك شاعرة تعلّمت فن الكتابة والإلقاء. هذا الصّف يوضع فيه كلّ إنسان وُلِد على سطح هذه الكرة الأرضيّة، لا شيء مميّز به. أمّا باقي الصّفوف فتختارها أنت، تختار من أين تدرس علومها، كيف ترتّبها، كيف تنتفع بِها وكيف ستجعلها تميّزك عن غيرك.

اقرأ من تخصّصك الجامعيّ، اقرأ ما وراء الكتب الجامعيّة، اقرأ ما لم يرد أستاذ التّاريخ لك أن تعرفه، ولم ترد لكِ سيّدتي أستاذة مادّة الدّين أن تدركيه. اقرأو في السّر عن كلّ شيء، واقرأو في العلانية. عندما أمرّ بمكتبة أقول "يا إلهي كم عمراً فوق عمري أحتاج لإنهاء كلّ هذه الكتب؟".

لا أخصّ موضوع المعرفة في القراءة. نحن في القرن الـ 21، وحسب خبرتي في التّعليم، أيّ صف يتم تدريسه من خلال القراءة فقط، هو صفّ تقليديّ ممل، وماذا عن التّجربة؟ تخيّل حصّة كيمياء دون مختبر؟ أو درس رياضة دون ممارستها؟ أو حصّة رسم دون ريشة؟ أطلق لنفسك عنان التّجربة والفشل، التّجربة والفشل عشرات المرّات، فالعلم الذي سآخده من فشلك عشرة مرّات ونجاحك مرّة، هو أغنى من العلم الذي سآخذه ممن نجح أوّل مرّة، فلا تيأس.

اختبر معلوماتك، ادخل الصّيدليّة، عالم مخيف من المعلومات، كلّ علبة دواء يُكتب عنها كتاب. إلى جانب الأدوية التي أجبرتك قدراتك الجسدية على تناولها والتّعرف عليها، ماذا تعرف؟ أنواع الفيتامينات وفائدة كلّ منها؟ مضار هذا؟ فائدة ذاك؟ ما هي معلوماتك الطّبية؟ النّعنع والميراميّة؟ هذه من صف الحياة فأنت لم تجلب أيّ جديد.

جدّي درّبنا على ركوب الخيل منذ نعومة أظافرنا، ماذا أعرف عن الخيل حقّا؟ ما الذي سأخبر به أصدقائي فأضيف معلومة جديدة لمعلوماتهم؟ اجعل كلّ ما حولك يستفزّك، يثير فضولك، يزاحم أفكارك، يلدغ هدوءك ويوقظه.

أثناء محاضرة في الجامعة، ضربت زميلة أميركيّة كوعها في مقعد. بدأت تشرح لي الألوان التّي ستمرّ بها الكدمة شرحاً علميّاً، ومعنى كلّ لون وسببه. كانت تعرف كلّ ما يحصل بِها، تعرف سببه وتعريفه وشرحه. كم من مرّة أُصبنا بالانفلونزا أو المغص أو التّعرّق صيفاً او انقطاع النّفس ولا نعرف عن هذه الأمور سوى الجمل المعتادة. هل نعرف سبب ألم الرّأس عند التّفكير؟ لا، الأفكار لا تُتعب، بل محاولة الوصول إليها يتطلّب من الدّماغ جهداً مضاعفاً، فالدّماغ في الأصل يستنفذ 20٪ من الجهد الكلّي من جسم الانسان.

الإدارك جميل، القدرة على صيد المعلومة المناسبة من بحر أفكارك في اللّحظة التي تريدها، هذه مهارة فعلاً. يعجبني دائِماً من يمتلك أمثلة في مجالات متنوعة علميّة، أدبيّة أو فنيّة يسند إليها أقواله، طبعاً غير محمود درويش ونزار قبّاني وأفلاطون والخوارزمي. يُثرِي الحوار بأمثلته الجميلة، فأخرج من الجلسة وكأنّني قرأت كتاباً جديداً.

تقول الكاتبة منى حوا "من المهم أن لا تشرق الشّمس وأنا نسخة عن الأمس"، وتداوم منى مثلاً على قراءة 50 صفحة يوميًّا، أو مشاهدة وثائقيّ ذو قيمة. ما الذي أضفته إلى عقلك خلال 24 ساعة؟ معلومة إضافيّة؟ شاهِد. اقرأ، تعلّم، ابحث، الكون واسع، معلوماته لا تنتهي والعلم متسارع والأدب يتكاثف والتّاريخ أصبح يفيض من الكتب، أين أنت من كلّ ذلك؟ لا تجعل هذا القطار يفوتك. لا تجعل من نفسك الانسان المُتلقّي فقط، تأخذ المعلومة التي استمتع الآخرون في البحث عنها ودراستها، كُن أنت ايضاً الباحث الذي يُقدّم تماماً كما يأخذ. كُن الإنسان الذي يريد الجميع مجالسته.

هناك كثير من المواقع التي تقدّم معلومات متنوّعة، عاهد نفسك أن تقرأ أمراً واحداً على الأقل يوميّا، واكتب في دفتر مذكّراتٍ خاصّ بك معلومة جديدة تعلّمتها اليوم، في نهاية الشّهر تكون قد أضفت لنفسك 30 معلومة قيّمة على الأقلّ. "ولست متأكّدة إن كنت أعتبر نشرات الأخبار العاجلة معلومات تفيدك في مسيرة حياتك".

ماذا لو عِشنا كما عاش الأوّلون ممن وصلت أعمارهم مائتين وثلاث مئة، هل كانوا يملكون نفس أدمغتنا؟ فهل لنا أن نتخيّل كم من ركنٍ مهجور فيها الآن؟ ونحن لا يتجاوز متوسّط أعمارنا الـ 65 عاماً؟

العربي الجديد

التدوينات المنشورة تعبر عن رأي كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي زمن برس.