البرغوثي.. الشهيد الذي اختبر حبَّ خطيبته بـ"وصية"!

البرغوثي

بدا صوتها مرتجفاً عندما صرخت فيه عبر سماعة الهاتف "عبد الرحمن، اصمت، لا تقل هذا ثانيةً.. أنتَ نصف الروح ولا حياة إلا معك"، ضحِك وناداها من جديد :"إسراء، غاليتي.. اهدئي، ها هم الجنود أمامي، أقولها لكِ ثانيةً: لو حدثَ لي أي شيء.. أيُّ شيء، ابقَي سعيدة كما لو كنتُ معك، وأكثر"..

بادلته خطيبته الضحك، وقالت :"هذا يكفي يا عبد الرحمن"، ردّ مسرعاً لأن دوره في "تدقيق الهوية" جاء :"حاضر حاضر، خمس دقائق وأكلمك، في أمان الله". على المرآة جلست إسراء تمشّط شعرها، تخاطب روح "عبد الرحمن" وتدندن "أغنية حب"، كانت كأنما ترى "الطرحة" تنسدلُ على كتفيها، وفوق رأسها الورد يفوحُ باسم "الحبيب".. كيف لا؟ وعرسها على شفا شهر..

مرّت الخمس دقائق، والعشر، وتاهت "إسراء" بين بعض الانشغالات، ترتّب غرفتها.. ربع ساعةٍ مرّت بعد آخر "فَرَحْ" وعبد الرحمن لم يتصل! ما كان من داعٍ للقلق، فتدقيقُ "الهوية" بين حاجزٍ وآخر في القرى القريبة من رام الله أمرٌ شبه عادي.. لعلَّ شيئاً ما أخّره "مصادفةُ صديقٍ مثلاً".. مرّت خمسُ دقائق أخرى وبدأ القلبُ يغلي.. على عجالةٍ ضربت رقمه، ورنّ جَرَس.. أحدهم قال : آلو..!

- وينك يا عبد الرحمــــــــ.....

- صاحب هذا الهاتف استشهد..

أغلق صاحب الصوت الخط، فصرخت إسراء تنادي "أي أملٍ" يكذّبُ تلك الجملة.. "انتظر.. من معي؟.. انتظر"، ظنّت لوهلةٍ أن عبد الرحمن استعان بصديقٍ ليتمّم "دعابته المزعجة تلك".. عادت تتصل، وتتصل... ولكن عبد الرحمن لم يُجب.. خارت القُوى، وذاب الصوتُ بعد صرخةٍ واحدة.. كل شيءٍ أضحى أسود: الأحلام، وأنغام الورد تلك، والطرحة.. نادت: "عبد الرحمــاااااااااان".. وفقط.

هرولت أمها نحو الغرفة، فوجدتها على الأرض تحتضن الهاتف.. لم تكن إسراء تبكي، ولم تُجب على وابل الأسئلة ذاك سوى بكلمة واحدة :(استشهد)..

على بعد مترين من ذلك العذاب، علا صوت المذيع يعلن استشهاد شابٍ قرب حاجزٍ عسكريٍّ وسط قرية عابود غرب مدينة رام الله.. ثوانٍ فقط، وأعلن المذيعُ ذاته "الهُوية".. (الشاب عبد الرحمن وجيه البرغوثي).. حقيقةً، هذا آخر ما تذكره "إسراء" من أحداثٍ في ذلك التاريخ : الخامس من شهر كانون أول/ ديسمبر..

ذلك اليوم بدأ طبيعياً في بيت (إسراء البرغوثي) التي استيقظت على رسالةٍ من خطيبها (عبد الرحمن) يقول لها فيها "صباحُكِ سكر".. انفتح قلبها أمام يومٍ جديد أضحى الفرح فيه "أقرب".. عبد الرحمن، كان سألَها قبل ليلةٍ: "كم طفلاً سنُنجب؟" فأجابته :"أربعة" ابنتان جميلتان كحبّنا، وولدان يكونان السند.. ضحك لأن "إسراء" تتحدث بلسان عقله، كلُّ شيءٍ بينهما كان كأنه "واحد" العقل والقلب والحلم.. تَرى ما يراه، وتقبله "طوعاً وحباً".. هي قصةٌ رضيَ الله عنها "في حلاله" بتاريخ العاشر من كانون ثاني/ يناير لعام 2015، عندما قرّر أن تتلاقى القلوب يوماً هناك.. في (عابود) حيث مئات الأمتار تفصل بيت "عبد الرحمن" عن مسقط رأس "إسراء" في قرية "دير غسان".. البقية تتبع:

لقاءٌ قدري..

على أعتاب أيلول، بدأ عام 2014م يحتضر، الحر الشديد يومذاك أحرق همّة "إسراء" للنهوض من سريرها مجدداً نحو "عُمرٍ من الرتابة" مقداره (24) ساعةً لا تفعل خلالها شيئاً بعد ترتيب المنزل سوى أن تتابع التلفاز.. على كلٍّ "لم يضربها أحد على يدها كي تترك المدرسة" هكذا كانت أمها تعلّق كلما رأتها تتأفف من مهام التنظيف أو تتذمر من "قعدة البيت"! كان لا بد لها في ظل منسوب "الكآبة" ذاك أن تفكّر بجدّية في "عرضٍ" اقترحته صديقتها قبل عدة أيام "حتى وإن لم يرُق لهواها"..

كانت جمعية الشابات المسيحيات أعلنت عن اقتراب افتتاح دورةٍ تدريبيةٍ لتعليم الفتيات تجهيز "خزين العام": تقشير اللوز وتحميصه، وصناعة رب البندورة، وكبس الزيتون وغير ذلك..

- هذه فرصتي كي أتنفّس "الأكسجين" حُرّاً.. ولم لا؟

بدأت الدورة، وكان عدد بنات "عابود" أكثر بكثير من الملتحقات من قرية "دير غسان"، وهو ما حدا بالقائمين على الدورة إلى نقل مقر التدريب إلى حيث الأغلبية تقطن.. مجلس قرية "عابود".. وهناك كان "قيسُها" ينتظر "القدر"..

في وقت استراحة، إحداهن غمزتها، وهمست في أذنها :"انظري، ذلك الشاب.. يبدو أنه يعمل هُنا، لقد استرق النظر إليكِ أكثر من مرة"، وأخرى أخذها الضحك عندما شرَد عقله عن صبّ الماء فانسكب منه أرضاً.. كانت الوحيدة التي نظرت إليه مرةً فقط، وقرأته كلّه..

تقول :"بدا لي شاباً طيباً ولم أشتم من ناحيته رائحة "عبث"، عرفتُ اسمه بمحض الصدفة، وقررتُ تجاهل نظراته طوال يومين كاملين.. حتى إذا استلمنا "الشهادة" ودّعْنا "عابود"، وهنا.. بدأت القصة".

إعجابٌ وتعليق!

وجدَت "إسراء" اسم عبد الرحمن "ضيفاً" على صفحتها الشخصية (فيس بوك)، لا وبل وجدت منه "إعجاباً" على منشورٍ وعبارةً كتبها لها "والله كلامك صح"! بسرعةٍ، أرسلت له رسالة :"إياك.. إياك والتعليق على منشوراتي"... بضع دقائق، "وتمّ العرض"... ردّ عليها :"آسف، لن أكرر ذلك".

مضت حياة الفتاة طبيعيةً بعد ذلك اليوم، تفتح صفحتها، وتحادث صديقاتها، وتشارك المنشورات.. حتى أن شكل ذلك الشاب "غريب الأطوار" غاب عن ذاكرتها تماماً.. لكن "إسراء" لم تغب.. تلك الابتسامة "الحيِيّة"، وذلك القلبُ النقي، بقيا يباغتان "منامات" عبد الرحمن.. كان في كل يومٍ يمر على اسمها يحارُ أيحدّثها وهي البعيدة "القريبة"، أم ينصاع لرغبتها فيعطي الوقت "فرصةً" أخرى لينسى!

- شاركتُ وصديقاتي المقرّبات منشوراً اتفقنا فيه على الخروج إلى مطعم تمام التاسعة والنصف من ليل أحد الأيام لتناول وجبة العشاء، بطبيعة الحال، الوضع في قريتي "أمان"، وكان أهلي يعرفون صديقاتي هنّ بناتُ مَنْ، وكيفَ تربّين، وما كان من ضيرٍ للخروج..

ضحِكَت "إسراء" بصوتٍ تخنقه العبرة، قبل أن تُكْمل :"تمام التاسعة والنصف، طرقَتْ صديقاتي الباب، وكنت جاهزةً تماماً، لكنني.. لم أذهب".

قد تتساءلون لماذا؟.. ببساطة هذا هو السبب: إسراء التي استغلت فترة انتظار صاحباتها في تقليب حسابها الشخصي، تعثّرت برسالةٍ من "عبد الرحمن" يقول فيها :"لا تخرجي أرجوك.. في عابود (التاسعة والنصف) موعد عودة النساء، لا خروجهن، دعيني أعُدّك أختي.. خروج الفتيات ليلاً ليس بالأمر الحسن"..

بكت كثيراً وتابعت :"لا أدري ماذا حدث لي عندما قرأت رسالته، كأن شيئاً ما ضربني على رأسي، ما عدتُ إسراء التي تعتدُّ برأيها، ولم أترك لعقلي فرصةً أصلاً كي يفكر، أو يتساءل حتى :"وما دخله هو"..

مرّ شهرٌ، وإذا بأهله يباغتون بيتها "طالبين القرب"! جلست العائلتان "كبارهم" وتعارفوا، ووجدهم أبوها "نعم الناس".. قبل أن يرحل عبد الرحمن طلب رؤيةً شرعية.. ضحك الوالد، وقال "حقُك".. في مساء اليوم التالي التقى القلبان! كان عبد الرحمن حضّرَ في عقله "قائمة أسئلة"، وهي كذلك! قالت سأسأله عن كل شيء، كل ما يمكن أن يخطر على بال فتاةٍ مقبلةٍ على حياةٍ جديدة.. جلس الاثنان، لا هو نظر إليها ولا حتى هي... مرت الدقائق طوالاً على صمتٍ مطبقٍ، وابتسامة.. كان قبولاً قدرياً من كليهما أعربا عنه بـ "ولا كلمة"..
اتفقت العائلتان على عقد القران، "كل الأمور بدت ميسّرةً وكأن الله اختار لحبهما "الأبدية".. إسراء لعبد الرحمن، وعبد الرحمن لإسراء، أمام الله، وأمام الناس.. وأمام رباط الحبّ الذي جمع اسميهما في "عقدٍ" واحد.. لا يزال أول مشوارٍ جمعهما معاً بعد أن أضحت "إسراء" السيدة "برغوثي" يناطح الذاكرة، في أحد مطاعم رام الله سألها شيئاً بحذر..

- أريد منك أن ترتدي ملابس طويلة بدلاً عن هذه إسراء..

ارتبكت إسراء، وظنّت لوهلةٍ أنها تجلس مع "سي السيّد"، ردّت عليه وقد أشاحت بنظرها عنه :"لماذا لم تتحدث نساؤكم في هذا مع أهلي؟ لماذا لم تطلب ذلك في جلستنا ما قبل الزواج؟"، أجابها دون تردد :"لأنني لم أخرج معك من قبل، لم أرَ الناس يتفحّصونك! أنا أريد أن أصونك.. أن أحميك من كل شرٍ حتى لو كان مدسوساً بنظرة"..

عبد الرحمن، كان دائماً يحدث إسراء عن شيءٍ اسمه "المستقبل"، عن طموحٍ يجب أن تتبنّاه غير أن تكون زوجةً وأما، كان يحدّثها عن حياةٍ فيها "الخصام" على رأس قائمة الممنوعات.. إن نام معهما الحزن عليه أن لا يصحو، وإن صحا معهما، فعليه أن يموت بعد كلمة "صباح الخير".. كان يخبرها كم يشتهي أن يتمّم بناء بيتهما ليجمعهما معاً ذات شتاء..

قبل أن يستشهد كان يعدُّها أمه وأخته والحبيبة، وكان كلما زارها طلب أن تعدّ له "الملوخية".. كل إثنين وخميس، كان عيد إسراء يهلُّ مع الطرقة الأولى على باب منزلهم.. "عبد الرحمن" وفي يده "هدية".. كان كريماً طيباً معطاءً مضحّياً هكذا وصفته، وهكذا سيبقى..

ثالث يومٍ من أيام العزاء، كانت إسراء لم تصدق بعد فكرة أن عبد الرحمن "تركها" وحدها في هذا العالم.. ابنة خالتها قالت سآخذها إلى قبره لعلّها تصدّق..

- أنظري يا إسراء، هنا تحت هذه البقعة من التراب يتمدد عبد الرحمن شهيداً..

- لا، هذا غير صحيح.. عبد الرحمن قال لي إنه سيزورني الاثنين القادم.. لماذا تكذبين علي؟

- إسراء حبيبتي، عبد الرحمن "استشهد".. قولي الله يرحمه..

- الله يرحمك ارحميني.. لماذا لا تصدقين أنه حي؟ حسناً عندما يأتي الاثنين سأريكِ إياه حتى تصدقي يا ذكية..

لم يكن من قريبتها إلا أن صفعتها على وجهها بقوة "اصحي".. هكذا ولأول مرةٍ بكت إسراء.. بكت لأنها صدّقت بأنها مُنِيَت بـ "فقدٍ" لا لقاء بعده.. صدّقت أن عرسها الموعود أضحى "سراباً".. بكت حتى الثُمالة، وعادت إلى بيتها لا ترى في طريقها سوى "عبد الرحمن" يفتح يديه.. هي تهرول نحوه وهو يبتعد نحو السماء..

لو كان عبد الرحمن حياً الآن، وطُلِب من "إسراء" أن تخبره بشيء، لقالت له هذا :"أنا ما كنت بدي اياك تتركني، انت وعدتني نضل سوا، ما قلتلي إنك راح تروح هيك بكير، أنا وانت ما بينفع نعيش إلا سوا... الصدفة اللي جمعتنا الله قدّرها، وإنك تركتني كمان الله قدّر.. بس أنا ما راح أتركك.. انت حبيبي وكل أهلي.. انت يا عبد الرحمن بكرة وبعدو.. تعال وزورني.. أنا راح أضل أستناك".

"عبد الرحمن، أعدم على يد الجنود بدمٍ بارد، واتهم بمحاولته طعن أحدهم كذباً"، هكذا قالت شاهدة عيان، بل الأدهى من ذلك أن جندياً هو الذي بدأ الاعتداء بضرب الشاب الفلسطيني قرب الحاجر، ما حدا بعبد الرحمن إلى رد الاعتداء دفاعاً عن نفسه فباغتته ستُ رصاصات! قتلت روحه وأحلامه وقتلت فرَحَ "إسراء"..

كان الاثنان ينتظران عودة أهله من الولايات المتحدة (حيث غادروا منذ ما يزيد عن ثلاثة أشهر لتجديد الإقامة) حتى يقيما عرساً "يحكي عنه فلان وعلان".. عبد الرحمن لم يكن يتخيّل عرسه دون "زغرودة" أمه.. فلا أمه عادت، ولا الزغرودة دوّت.. ولا إسراء أضحت "عروسا".. قصةٌ كتب الاحتلال نهايتها بـ "الدم"، وهي واحدةٌ من روايات حبٍّ قدريّة "فلسطينية" "عادية" أعدمها الرصاص قبل أن يلتقط الوقت لها "صورةً" للذكرى حتى!.

 

المصدر: صحيفة فلسطين 

التدوينات المنشورة تعبر عن رأي كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي زمن برس.