المقاطعة بين الحقيقة والأحقية

قبل  عدة أشهر ، وبينما كنا نتراوح من جديد بقبول الوضع القائم كوضع دائم .. كتبت عن موضوع المقاطعة ولربما للمرة العاشرة . لأن المقاطعة تبقى في ظل الظروف الراهنة هي أضعف الايمان لكل فلسطيني في الداخل والخارج كمساهمة بسيطة جدا امام تضحيات شعب لا يبخل بدم ابنائه لدرء الظلم الواقع علينا ولا ينتهي.

ولا انكر بأنني على الصعيد الشخصي لا احبذ التأطير . فلا احب الانتماء لحزب ولا فصيل ، ولكن انتمائي للوطن . والوطن ليس علبة محددة المعالم ولا الاطر . خصوصوا في هذا الوضع الذي لم يعد هناك جغرافيا ولا سياسة توحد وجهة نظرنا او رؤيتنا . .

ما اثار أرقي في الاونة الاخيرة ، وفي ظل سيل الدم الحالي ، والذي لم يبق مسار امامنا الا اليقين بأن الاحتلال بديمومته لا يبغى الا الى التخلص منا افرادا او جماعات . لا يميز بين طفل ولا كبير . بين رجل او امرأة . ولم اعد اعتقد ان هناك اصلا داعي للكتابة بموضوع المقاطعة . لان الوضع لا يحتاة الى حملات توعية . فكل واي منا ممن يعيش بشاعة الظلم الواقع علينا كشعب عليه ان تكون المقاطعة عنوان مقاومته . ولم البث بالمفاجأة من احد الاصدقاء الفيسبوكيين الذي استغرب كتابتي المتواصلة عن   .المقاطعة لأنها مستحيلة . كنت لتلك اللحظة افهم حجة سكان القدس بذلك . ولكن سكان رام الله او بيت لحم او غيرها من المدن الفلسطينية المستقلة ؟ ما الذي يمنعهم في هذه الظروف . الا يخطر ببالهم الدم  الفلسطيني المهدور امام كل ما يمثله التعامل مع الكيان الاسرائيلي من طرفنا عنوة؟ الي متى سنستمر بهذا الحال الهزيل. ولا انكر انني لا استغرب من شعب في الماضي القريب اعلن رئيس دولته ان التنسيق التنسيق مقدس وان التطبيع سنة الحياة . رئيس وزراء اعلن على الملأ انه ضد التطبيع بينما في فلسطين اليوم في كل يوم هناك شهيد. .. هذا ما كتبته بالامس.. فما اشبه اليوم بالامس

يتناول موضوع المقاطعة منا الكثير من الحديث والمداولة التي اختلط بها الحابل بالنابل ولم نعد نميز بين المقاطعة في رام الله ومقاطعة البضائع الاسرائيلية وغيرها. فبين جهات فاعلة في حملات المقاطعة التي تتعدد في صورها واشكال نشاطاتها وبين غياب للرؤى الواضحة ضمن آليات تحدد ماهية المقاطعة وماذا تضم وعلى من تقع ومن أين تبدأ وكيف تنتهي وما هية استخدام الوسائل لتنفيذها وما هي البدائل للعمل من اجل تفعيلها ، تكمن مشكلتنا كأفراد وكشعب ، كمؤيدين لحراك المقاطعة وكعاملين فيها .

فنحن نحيا في واقع أعلن فيه رئيس السلطة الوطنية على الملأ “تقديسه” للتنسيق ، والذي بدوره يؤكد على عدم دعمه للمقاطعة كطريقة دفاع او مقاومة . وقد نختلف او نتفق معه ، ولكن كلمة حق ترمى له، هي انه سمح لمن يختلف معه في هذا الموضع بأن يتحرك وكما يشاء . فقد نتفق ان الناس تختلف في مفاهيمها ورؤيتها للامور ومن ضمنها تعريفنا للمقاومة واساليبها وادواتها المختلفة .

وكما يجبرنا الواقع كأفراد باستحالة المقاطعة التي تشمل حياتنا في ضمن الدائرة الاسرائيلية من الف الى ياء حياتنا ، فحتى المصر منا والمتمسك على المقاطعة بكل اشكالها لا يجد بدا من التعامل مع اسرائيل . فنحن نستهلك بكل الطرق ما ينتجونه وما يصدرونه لنا . وان استعملنا البضائع البديلة فهم يستفيدوا بدءا بعقد الصفقة ، والجمارك والمكوس والموانيء وغيرها. اذا ما اردنا السفر من المستحيل العبور خروجا او دخولا الا من خلالهم . فكل نسمة هواء تدخل اجسامنا تمر عبر فلاترهم . فالماء والكهرباء نحصل عليها عن طريقهم .

فبالتالي من الاستحالة الوصول الى مقاطعة تامة ، الا اذا لم يكن المرء بحاجة للسفر من جهة ، واذا كان هذا المرء سيستغني عن الكهرباء ويستبدلها بقناديل الزيت او يبتكر وسائل الطاقة الحديثة ، وسيأكل مما يزرع في حديقة بيته ومزرعته ، وسيلبس مما تحيكه يداه . وفي كل الحالات هذا يتطلب وضع مادي لا يستطيع المعظم القيام به . فحقيقة حياة معظمنا مكدسة في الشقق اما بالايجار او برهن البنوك ، نسوق انفسنا للعمل لنسدد القروض ونوفر كل ما يمكن لنا من مصاريف باقتناء الاوفر والانسب.

فالمقاطعة نسبية وشخصية على المستوى الفردي . ومستحيلة على المستوى القيادي .

فالقيادة ملتزمة باتفاقيات فرضت عليها الحراك التجاري بقيود كبيرة ضمن اوسلو وغيرها ،فبالتالي امكانية توفير البدائل مستحيلة بالكامل او حتى جزئيا. والفرد مثلي على سبيل المثال ، يحتاج ليكون فعلا غنيا من اجل الصمود امام المقاطعة ، فالبديل للبضائع الاسرائيلية هو البضائع الاجنبية والفلسطينية الباهظة الثمن ومع اشكالية سوء الجودة طبعا . وان كان الانسان عنيدا كأفراد عائلتي يقبل بان يدفع اكثر مقابل التأكيد على وجهة نظر وقضية حقة ، الا ان المغريات تلاحقه سواء بتلك المدافعة الجماعية نحو الجهة الاخرى وشعور المرء ب”الهبل” و”السذاجة” ، عندما تشتري مثلا الحليب الذي تخشى ان يكون فاسدا ، والصابون سيء النوعية والذي يفوق ثمنه الصابون المقابل، وتستخدم المواصلات الفلسطينية التي تبدو انتحارية بتهور السائقين وسوء الحافلات مقابل القطار الخفيف. وتقرر الذهاب الى التبضع في السوق العربي وتشتري قطعة تعرف انها موجودة بالمول بالرغم من سوء انتاجها او حسنه بنصف الثمن الخ .

ومن هنا نخرج للمقاطعة الدولية . فحركة المقاطعة التي بدأت منذ اكثر من ١٥سنة بدأت تحصد نتائج مهمة في السنوات الاخيرة وركبت المقاطعة الداخلية على امواجها ونجحت . والعمل الذي يقوم به اولئك عمل مهم وفاعل . ولكنه كأي عمل له ما يقيده وما يحدده . فالامور مستحيل ان تأخذ صبغة الابيض والاسود فيها ، لانه كما شرحت سابقا مستحيل ان نطبقه نحن الفلسطينيون مهما حاولنا وقررنا واجتهدنا لذلك . فإذا ما كان مستحيلا فلسطينيا ، لما نلزمه على الاخر الغير فلسطيني ؟

فكما يحق للجان المقاطعة محاولة كل ما يستطيعوا القيام به من اجل تجنيد اكبر عدد من الدعم للقضية الفلسطينية واقناع الاخرين بمقاطعة اسرائيل ، على تلك اللجان فهم ان الناس مختلفون في ظروفهم ومكاناتهم ومواضعهم . وهذا مهم جدا تفهمه .

فوضع قيود صارمة على الناس من اجل اجبارهم على المقاطعة يشبه شد الحبل ، اذا ما شد كثيرا يقطع. وهناك مبدأ عام يجب اخذه بعين الاعتبار  ” ليس من حقنا فرض ما نراه على العالم” . فهناك الكثير من الناس المؤيدون والمدافعون عن القضية بإخلاص ونهم لا يتفقوا بالضرورة مع مبدأ المقاطعة . ما الذي نفعله بهؤلاء؟ نرميهم للجهة الاخرى ونثبت لهم ما تريد اسرائيل اثباته بهمجيتنا و”تياسة” فكرنا ؟

ولاولئك المدافعون عن المقاطعة والتي انتمي انا اليها … اليس من الحق ترك المجال للاشخاص بتقرير رؤاهم بعد محاولتنا اقناعهم بما نراه من جدوى للمقاطعة؟

 

فالامثلة كثيره ويستحضرني بهذه اللحظة احد مناصري المدافعين عن المقاطعة منذ بدئها وهو نورمان فينكلشتاين ، اليهودي الامريكي الذي دافع وبشراسة ولا يزال عن القضية الفلسطينية ويستمر في فضح ممارسات اسرائيل ويرفض شرعيتها ، والذي رأى مؤخرا بأن المقاطعة لا تجدي وعليه يجب التفتيش عن سبل اخرى . ولم يرم فينكلشتاين المقاطعة الى المهملات ولكنه رأى دوره فيها غير فاعل في هذه المرحلة . لم يحكم على من يؤمنوا بهذا الحراك وعليه كان من الواجب احترام توجهه لان خسارته هي خسارة لمناصري القضية الفلسطينية.  وايلان بابيه الذي تعلمت شخصيا نهج المقاطعة على دروسه . وهو يقيم بحيفا . هل نكسر عمله ونخونه. فما قدمه ويقدمه بفضح اسرائيل يفوق ما نستطيع القيام به فلسطينيا بعد مئة عام ؟ وهناك العديد من  الامثلة التي من الممكن القياس عليها . ومن جهة ما هناك انجازات تحسب للحراك بلجنة المقاطعة كما ان هناك اخفاقات تحسب عليها .

فمعاملة الاستاذ الدكتور محمود شريف بسيوني  الفقيه الدولي المعروف واحد اقطاب المحكمة الجنائية الدولية والذي يحتوي تاريخه على الكثير الكثير من الانجازات التي تقيم على انها بطولية اذا ما قسنا البطولة بما يخدم الشعوب المقهورة ، فتاريخه يتكلم عن نفسه سواء كمشرع وفقيه في القانون الدولي او كرئيس لجان دولية عملت بإخلاص وتفاني من اجل اظهار الحق في دول عدة كيوغسلافيا وافغانستان والبحرين وفلسطين. معاملته كمعاملة سكارليت جونسون او مادونا هي معاملة مجحفة تخلو من بعد النظر وفهم مواقع ومواضع الناس. لقد كانت زيارته التاريخية لفلسطين تلبية لدعوة من جامعة القدس تواضع من جانبه وتقدير منه كبير للمجتمع الفلسطيني . وحسابه على زيارته لاسرائيل وكأنه مطبع ومتعاون وغيرها بدون حتى السماع لتفسيرات الرجل واسقاطها من تقديرات القائمين على حملة المقاطعة لا تعبر الا عن سوء تقدير وسوء تعبير وإدارة .

فناهيك عن كون الرجل شخصية اعتبارية ، اكبر من ان تكون في موضع مساءلة عن موقفها من اسرائيل والمقاطعة وعكسها . رجل يرأس من جهة مؤسسات دولية نسعى نحن الفلسطينيون اليوم للحصول على دعمهم من اجل النهوض بعدالة قضيتنا ، ويحمل بين سنوات تاريخه العريق نضال عربي وفلسطيني من السوء المس به .

الم يخطر ببال القائمين على الحملة ان رجلا مثله عندما يقرر التعامل مع اسرائيل مثلا قد يكون هناك بسبب مهمة ما لا ترتبط بزيارته للفلسطينيين ؟ وهل يعقل ان نضع رجلا مثله امام هكذا حساب؟

مع الاسف انغلاق الافق يعمينا احيانا عن رؤية الامور كما يجب . ولا اكتب ما اكتب استرضاءا للرجل الذي يصر في كل منبر وضع القضية الفلسطينية ضمن احقية يفقد فيها قادتنا احقيتها كل يوم . على الرغم من ان رجلا مثله يستحق استرضاءه وشكره والاعتذار منه . الا انني اقول ما اقوله في غمرة المآسي التي نعيشها كوطن عربي يعميه فيها التطرف من الادنى الى الاقصى.

التطرف الديني  لا يختلف عن التطرف الفكري ايا كان اتجاهه في اللحظة التي يقرر الشخص منا اغلاق عيونه وادراكه عن الاخر. فمع احترامي وتقدييري لجهود القائمين على حملة المقاطعة ،الا انني اشجب وبشدة محاولة التهجم سواء بالايميلات او المكالمات على الرجل ، لانها لا تفتقر فقط للبعد الاستراتيجي الذي يتطلب بعد النظر وتوسع الافاق في النظر . ولكنها تفتقر للاخلاقيات المبدئية في التعامل مع شخصية بشخص الاستاذ الدكتور محمود شريف بسيوني والذي باللحظة التي لا يفرق فيها القائمون على حملة المقاطعة بين فنان ومشرع يفقد اولئك احترامهم امام العالم الذي يحاول وصدق دعم القضية الفلسطينية .

فكما ان دعم القضية والعمل من اجلها لا يختزل بعمل الحملة ولا بعمل القادة والساسة ، بل بحراك فردي وشخصي يقرره كل منا كافراد وشعوب ..لا يحق للحملة ان تنصب نفسها كالمشرع على من يحمل صفة الوطنية او عكسها . التضامن او التخاذل

فكما انه ليس من حقي كمواطن ان احكم على اخفاقات الاشخاص واحملها للجنه او نظام، لان هناك دائما ظروف واستثناءات … تجعل منا من نحن … يجب علينا احترام ذلك اولا .. واخيرا..

التدوينات المنشورة تعبر عن رأي كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي زمن برس.