الإبداع السردي وتوظيف المخزون الثقافي في كتاب "من طقوس القهوة المرة" للكاتب فراس حج محمد

صورة الغلاف

في عصر الإنترنت وسرعة تناقل المعلومة اتجه بعض كتابنا إلى النثر، فهو يواكب متطلبات العصر، حيث يعزف الكثيرون عن الأعمال الأدبية الكبيرة، مثل الروايات والمجموعات القصصية، فكان لا بد من مخاطبة هذا الجمهور بالطريقة التي يريد.

ما يحسب لهذه المجموعة من النصوص أنها بغالبيتها تتحدث عن القهوة، أو تجعل القهوة عنصراً من الحدث، وهذا ليس بالأمر اليسير، حيث قدّم لنا الكاتب ما يتجاوز (230) صفحة وبعدد مواضيع تجاوز الخمسين، في مجملها تطرق إلى ذكر القهوة، وهذا يشير إلى قدرته على السرد واستحضار الأفكار.

وما يميز هذه المجموعة عن سابقاتها من النصوص النثرية، أنها كانت تتسم بالنضوج النفسي، ولا أقول بالنضوج الأدبي أو اللغوي، ففي "رسائل إلى شهرزاد" كانت شخصية المراهق هي المهيمنة على النص، رغم أن اللغة كانت جيدة، لكن المشاعر وما بدا من نفسية الراوي كانت في غالبيتها تشير إلى حالة مراهق، أما هنا في مجموعة "من طقوس القهوة المرة" فكان الراوي شخصية ناضجة تعيش حالة الحب، الحب في حالة النضوج والوعي، وليس الحب بطريقة المراهق الذي لا يعرف إلا الأبيض أو الأسود، فهنا كان الراوي حتى في حالة تعثره عاطفيا كان يتكلم بطريقة متزنة وعقلانية.

سنحاول إبراز بعض ما في هذه النصوص من جمالية أدبية وأفكار وتأثيرات، فالكتابة عند "فراس حج محمد" تتميز بوجود تأثرات واقتباسات ومحاكاة للنص القرآني، سواء أكان شعرا أم نثرا، فهناك مجموعة من العبارات والكلمات تشير إلى هذه المسألة، فيقول في صفحة (36): "لماذا تتوقعين أنني قد أنكص على عقبي؟" فهي تحاكي الآية من سورة آل عمران "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ"(144) ويقول: "ستكونين والقهوة شرابا عذبا سلسبيلا سائغا" صفحة (54)، وهي تحاكي الآية التالية من سورة النحل "وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً، نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِّلشَّارِبِينَ (66)

ويقول "خذي زينتك عند كل نظرة" والتي تحاكي الآية الكريمة من سورة الأعراف "يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا، إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ" (31).

وهناك العديد من الشواهد التي تشير إلى الثقافة القرآنية التي تفرض نفسها على الكاتب، والمتتبع لهذه تأثيرات في المجموعة يجدها تأتي مع السياق، وبشكل انسيابي، وتكون مناسبة وتخدم المعنى وتعطيه بعدا جماليا وأدبيا، فكل ما جاء من تأثر يحسب للنص وللكاتب الذي يقدم ما عنده من ثقافة بشكل انسيابي، فلا يشعر المتلقي بأنها قد اقحمت في النص، بل تأتي بشكل عادي وطبيعي.
ونلحظ تأثر الكاتب بفيروز في أكثر من موضع، فيقول عنها: "فيروز بصوتها قائلة: "يا جبل اللي بعيد خلفك حبايبنا" ص (103)، كما يوظف أيضا بعضا من أغانيها: "حبيتك والشوق إنقال وليلات الحلوة عالبال" ص(117)، لا شك في أن فيروز لها مكانتها في الثقافة العربية، من هنا الشاعر يدعونا إلى التريث عندها والاستمتاع والتمعن بما تقدمه لنا من غناء.

وهناك حضور لمحمود درويش الذي استعان به الكاتب فقال: "لماذا تركت الفنجان فارغا" ص (33) محاكاة لاسم الديوان "لماذا تركت الحصان وحيدا" ويستحضر أيضا ديوان "أثر الفراشة"، فمحمود درويش لم يترك شاعرا أو كاتبا دون أن يـترك أثرا فيه، فهو كالهواء الذي نتنفسه، لا بد أن يحمل (فايروسا) ما.
هذا يشير إلى اتساع الثقافة التي يتمتع بها الكاتب، فهو تأثر بالقرآن الكريم وبدرويش وبفيروز بالأخطل الصغير، وكل هذا يشير إلى سعة اطلاعه وتنوع مصادره الثقافية، فهي ليس ثقافة أحادية الاتجاه/ القطب، بل متنوعة ومتشعبة، فهو يأخذ من هذا ومن ذاك، فلا يضع قيودا على أيٍّ من مصادر الثقافة.
الماء ودوره في الحياة الانسانية وما يمثله من عنصر أساسي في الديانات الوثنية والسماوية والمعتقدات الإنسانية يفرض وجوده في النص، وكما قلنا في ديوان "وأنت وحدك أغنية" فإن الشاعر يستخدم الماء لينوب عنه فيما يريده من المرأة، فها هو يؤكد هذا الأمر فيقول:
"ـ أين كنتِ؟
ـ إنه أمر خاص
ـ هل لي أن أحزر؟
ـ بالتأكيد، إن كنت تستطيع
ـ كنت في عناق مع الماء" ص (191) و(192).
فهنا يريد الراوي أن يصرح بحاجة الأنثى العاطفية، وأهمية وجود نظيرها، الرجل، ولكنه لم يكن ليجرؤ على الوضوح المباشر، فاستخدم الماء كإشارة إلى هذه المسألة.

وكتأكيد لهذه الإنابة يقول: "سأدخلك فيه ولن أدعك تغرقين إلا بقدر ما يحتاجك البحر إليه لتغسلي ملوحة مائه" ص (32)، فهنا قلب/ حوّل/ بدّل الكاتب دور الماء، وجعل الأنثى هي من سيغسل/ ينظف/ يزيل ملوحة الماء من البحر، وهذا طرح يحمل المجاز/ الرمز إشارة إلى حاجة البحر/ الراوي إلى أن يغتسل بجسد المرأة، ليصبح إنسانا كاملا وطاهرا، فقد تعمد بماء المرأة وتقدس بجسدها وزار معبدها.
هناك بعض النصوص كانت متماثلة في طرحها، وأحيانا كانت تقدم الحدث من زاويتين، لكنه حدث واحد كما في "لماذا أرادت فنجانا من القهوة فارغا" و "عندما يحاول القراء الإجابة" فهما طرحا عين الموضوع ولكن من زاويتين، وفي "ألا يكفيك جنونا يا أبي" و "بعض الرسائل قاتل يا عزيزي" قدم الحدث الأول من زاوية الابن، والثاني من زاوية الأم/ الزوجة، وهنا لا بد من التذكير بأن الكاتب أكد التقديم/ الطرح/ الصورة السلبية للأب، كما هو الحال عند غالبية الكتاب الذين يقدمون الأب بصورة سلبية والأم بأخرى إيجابية، أكد لنا الكاتب هذه المسألة، فليس صدفة أن يكون الأب رمز النظام هو السلبي في المطلق، بينما تكون الأم أنا الشعب رمزا إيجابيا.

وفي نص "في مكتب والدها، سيناريو محتمل"و "هذا هو السيناريو الذي كان" قدم لنا الكاتب الحدث الأول من منظور الحبيب الذي جاء يطلب يد الحبيبة من والدها، والثاني من منظور الحبيبة، ومثل هذه الثنائية تشير إلى قدرة الكاتب على السرد، والكتابة من زوايا متعددة بمعنى قدرته على الكتابة الروائية.
الوقت في هذه المجموعة كان إما صباحا أو مساءً، فالعديد من النصوص حملت معنى "قهوة بنكهة صباحك" ص (56)، وأما الجغرافيا فكانت مخفية، ليس لها حضور بشكل شبه مطلق، وإذا ما استثنينا عنوان "يكاد يقتلنا الشوق يا سوريا الحبيبة" نكون ضمن نصوص قد تجاوزت الجغرافيا تماما، وتحدثت عن هموم ومشاعر شخصية.

في نهاية المجموعة قدم لنا الكاتب خلاصة تجربته في الحياة، على شكل مقولات أقرب إلى الحكَم وعددها (150) نصا، وهنا نقتبس البعض منها: "هل من قسوة أشد من أن تسلم حياتك لغيرك؟ ولا تجد من يربت على كتفيك وقت التعب" ص (208)، "نشتاق للعناق، فيردنا سيف من عيون الآخرين" ص (210) "لا شيء يعادل قلب طفل غير ملوث بالانتقام" ص (219).

وبهذا الكتاب "من طقوس القهوة المرة" يكون الكاتب قد قدم لنا شكلا جديدا من الكتابة، يتناسب والعصر، ويلبي طموح جمهور الإنترنت، لكن هذا لم يكن حائلا دون تقديم نصوص جيدة وتسهم في رفع الثقافة الأدبية لذلك الجمهور.

التدوينات المنشورة تعبر عن رأي كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي زمن برس.