شهيدٌ بدرسَيْن

بقلم: 
رفيق التاج

قبل ٨ أعوام من الآن في رام الله .. اتصل بي أحد رفاقي المقرّبين مساء وطلب مني ان استضيف شخصاً كان برفقته في بيتي حتى الصباح، أكمل موضّحاً انه التقى به في سيارة أجرة وهو عائد من بلدة ابو ديس وحاول مساعدته في إيجاد وسيلة نقل تقلّه إلى مدينة طولكرم حيث كان متجهاً ولكنه لم يجد، فانقطعت به السبل .. أجبته فوراً : على الرحب والسعة.
وصل صديقي وبرفقته الضيف .. تفاجأت بصغر سنه وبرائته ، كان طفلاً لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره .. جلس وعيناه تتفحّص المكان والوجوه باحثة عن الثقة.
ما ان بدأت الحديث مع صديقي ، حتى بادرني بسؤال بريء دلّت عليه ابتسامته وتعابيرالدهشة على وجهه : انت كمان اسمك رفيق ؟!
أثار ضحكي مطولّاً هذا السؤال ، وكانت هذه البراءة كافية لبناء الثقة بيننا ، اجبته بالنفي وأوضحت له اسمي ، ولماذا ينادونني برفيق ، فقال لي : انا رفيق .
استمر حديثنا وضحكنا ، تناولنا العشاء وعلامات السرور والرضا تظهر على وجوه ثلاثتنا. - سألته : رفيق انت وين ساكن في طولكرم ؟
- في ملجأ الايتام .
صعقتني الاجابة الغير متوقعة تماماً ، صمت التلفاز ، تثبّتت عيوني نحوه ، وتبدلت الوجوه التي اربكتها الاجابة ، الا صاحب الاجابة بقي مبتسماً سعيداً.
قصّ لي رفيق قصته التي أوصلته الى هناك ، وتوالت اسئلتي التي راكمت وجع الاجابات على صدري. سرد احداثها دون الم او حزن او استعطاف ، مجرد شفاه تلفظ الكلمات مبتسمة دون انتظار أثرها على الاخرين . أخبرني ان زيارته لم تكن لبلدة ابو ديس بل للعيزرية وبأن سرّ تلك الرحلة هو ان له اثنين من الاشقاء صغيران يعيشان في ملجأ هناك ويذهب لزيارتهم مرة نهاية كل شهر.
صدمتني وارهقتني حكايته وتفاصيلها ولكن لم يكن كل الحديث الذي قد مضى شيئاً من الذي سيكمله رفيق ابن الثالثة عشر من عمره ، فجميع ما ذُكِر وما به من الم وقسوة ظروف ليس له حول ولا قوة بها ، ولكن الدرس الذي علّمني اياه رفيق كان في تعامله مع تلك الظروف . إجابته لسؤالي عن آلية رحلته الشهرية للعيزرية ولرؤية اشقاءه الصغار نقلتني من دائرة العطف الى دائرة الاحترام والخجل والتراجع . أجابني رفيق بأن جمعية دار اليتيم التي يعيش بها تقدم له مصروفاً يومياً مقداره شيكلين اثنين ، "اشتري بواحد واقوم بتوفير الآخر وهكذا وفي نهاية كل شهر اكون قد جمعت ٣٠ شيكلاً".
رددت : لا يكفي .
هز رأسه بالايجاب مكملاً : نعم ، ولكن شركة الباصات التي في المدينة توفّر للايتام خدمة النقل مجاناً عن طريق بطاقات يقدموها لنا ، وبهذا استقل الباص الى رام الله مجاناً ومن ثم ادفع ١٠ شواكل الى العيزرية ، ألتقي باخوتي واشتري لهم ما استطيع ان يفرحهم ب ١٠ شواكل اخرى ومن ثم اعود الى رام الله ب١٠ شواكلي الاخيرة ومن ثم استقل الباص مجاناً مرة اخرى الى طولكرم .
لم تغمض لي عين تلك الليلة ، فكرت في كل قضايا الدنيا ، تأمّلت وجه ذلك الطفل الجبل الذي يغفو مقابلي ، بدأت بسؤال نفسي : كيف له القدرة على ان يبتسم ؟ وختمت اسئلتي خجولا من نفسي : كيف لي الجرأة على ان احزن ؟ . لا أبالغ حين اؤكد بأنني رويت تلك الحكاية مئات المرات في الثمانية اعوام التي مضت على لسان : ذات طفل يتيم ...
رافقت الطفل المعجزة في الصباح الى موقف الباصات ، ودّعته واعداً اياه بزيارته قريباً ، تاركاً معه رقم هاتفي وعنوان بيتنا ومحل والدي في المدينة والذي لا يبعد عن مقرّ الجمعية سوى امتار. اتصل بي الطفل عشرات المرات مطمئناً ، ولم استطع الاتصال به كونه لا يملك جوّالاً . قابلته في المدينة وعرّفته على عائلتي ، أحب التردد على محل والدي حيث اقترب كثيراً من شقيقي الأصغر الذي يعمل هناك ، لم تنقطع أخباره منذ ذلك الحين ، وبقي ملتصقاً بعائلتي ومحيطها .. كانت اخر زياراته واخيرها قبل يومين .
وحيداً رفيق .. حدثني عن كل حدث ، وهاتفني عند كل جديد.
وحيداً كَبُرَ رفيق .. وعمل في العطلة الصيفية في محل للأعلاف بجانب محل والدي وفّره له شقيقي ..
وحيداً كَبُرَ رفيق .. ودرس في معهد التدريب المهني ..
وحيداً .. كَبُرَ رفيق أكثر .. طعن جندياً واستشهد ..
كَبُرَ رفيق كثيراً ..
وحيداً .. رحل رفيق .. وعلّمني درساً آخر
لفلسطين العزاء في شهيدها .. ولمدينتي العزاء في وحيدها

التدوينات المنشورة تعبر عن رأي كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي زمن برس.