ليلةٌ من ليالي شُباط الخَباط

عَلى أنغام “ليالي الشِّمَال الحَزينة” للصَوت المَلائكيّ فيروز، أقفُ عَلى شُرفَتي فِي ليلةٍ مِن لَيالي شُباط الخَباط، مُحتَضناً بَين كَفاي فِنجان مِن الشَاي تُزكيه رَائحة الميرمية، التي احرصُ عَلى قِطَاف مَؤونَة الشِتَاء مِنها مِن بَين حُقول الزَيتون فِي نَهاية تشرين أول مِن كُل عَام. افتَقَدت فِي لَيلتي هَذه صَديق المَساء الّذي اعتَدتُ أنْ أُخبِرَهُ عَن نَهاري وَأشكوا لَهُ هُمومي في كُلّ مَساء. شَققتُ بيدي قَطرات المَاء مِن عَلى زُجاج نَافذتي البَارِدة لاستَرِق النَظر بَحثاً عَن صَديقي. وإذ بي أجدهُ يُصَارع أسرَاباً مِن الغُيوم الغَاضِبَة، التيّ تَأبى لَهُ إكمَال طَريقَهُ نَحو شُرفَتي البَارِدَة. وَالرياح السَيبيرية البَاردة تُزَمجِر وَكإنها تَقول:”أدخُل إلى غُرفتك، لا لِقَاء لَكما اليوم”، فَارتعش جَسدي كُلّه مِن الزَمهَرير وَدَخلتْ.

دَخلتُ إلى غُرفَتي وَأشعَلتُ مِدفَئتي الصَغيرة، تَوشحَت بَطانيتي الحَمراء وَجلستُ عَلى الأريكة، احتَضنتُ فنجان الشَاي مِن جَديد وأخذتُ اتنَفس بُخاره، لَعلهُ يُدفئ قَلبي كَما يُدفئ الفِنجَان كَفاي. نَظرتُ عَلى يَميني وَتأملتُ مَكتبتي لَعلي أجدُ بَين رُفوفها دَواءاً لِوحدَتي وَشُعور قَلبي في بَرد، وَمن دُون سَابق انذار جَاءتني عَطسة خَبيثة، سَكبت الشَاي عَلى بَطانيَّتي وَتَلوثت بأوراق الميرامية أريكتي، انتَفضتُ لأُنَظف المَكان بِسُّرعَة لأتحاشى بُقعَة جَديدة تُضاف إلى البُقع التي تملئ أريكتي، لِدَرجة أنه يُمكن اعتِبَارها مَشروعاً فَنياً تَجريدياً لِكَثرة البُقع والأوان عَليها أو حتّى سِجلاً لِذاكرة النَحسْ المُزمِن الّذي يَأبى مُفَارقتي حَتى فِي لَيلةٍ بَاردةٍ مِن ليالي شُباط الخَباط.

وَقَفتُ مُنتَصف الغُرفَة بِالقُرب مِن المِدفَئة وَتَنهدت. حتّى كَأس الشَاي خَانني وَسَقَط فِي غَفلة مِني، فَلم تَشفع لي الميرَمية وَلا حُبي لَها فِي تَفادي خُبث العَطسَة.  تَوجهتُ إلى الرَّفين الصَغيرين الّذين صَنعتُهما مِن خَشب خَزانتي القَديمَة وَأسميتهما مَكتَبة، لأبحث لي عَن كِتَاب يُنسيني بُرودة الغُرفَة وغِيَاب صَديق المَساء. لَفت انتِبَاهي مِن بَين كُتبي المُهتَرِئة وَألوان أغلِفَتها البَاهتة – والتيّ اعتَدتُ أن اشتَريها مِن بسطة الكُتب المُستَعمَلة – كِتاباً غَريباً، كِتَاباً بِلَون الرَّبيع، مَاذا يَفعل هَذا الكِتَاب الغَريب هُنا؟ لَقد تَذكرتُه إنها رِوَاية رِجَال فِي الشَمس لِغَسان كَنفاني، لَقد أهدَاني إياه صَديقي “أبا العبد” قُبيل سَفره للعَمل فِي الخَليج، وَأصرَّ عَلي أن أقرَئه عَلى الرّغم مِن عِلمَهُ أني أُفَضِّل كُتب الفَلسفة وَالسِّياسة عَلى الرِّوايات. تَناولت الكِتَاب مِن عَلى الرَّف وَقَرّرتُ خَوض التَجرُبة، لَعليّ أكتَشِف سِّر إصرار “أبي العَبد” لي عَلى قِرَاءتها.

جَلَستُ عَلى سَريري وَنَصبتُ المخَدة وَراء ظَهري وَغرقتُ فِي صَفحات الرِّواية. مِن قِصة أبو قَيس إلى أسعَد فَمروَان، تَتابعت الأحدَاث واختَلفَت المَواقِف، مُروراً بِتَفاصيل الصَفقَة والطَريق. ومَع تَلمُسي اقتِرَاب انتِهَاء صَفحَات الرِّواية اسرَعتُ فِي القِراءة لَهفةً مني لِمَعرِفَة النِهاية. تَسارعَت دَقاتُ قَلبي مَع تَسارُع أبو خَيزران فِي تَوقيع أوراق العُبور للوصول إلى سَيارته لِيَنطَلق بِها خَارج بَوابة المطلاع، حتّى دَوى صوتُ الرَّعد عَالياً وَانقَطعَت الكَهرُباء. صَرخت بِأعلى صَوتي يا لله! جَلستُ أفكر، مَاذا حَصل لَهم؟ هَل تَم اكتِشَافهم؟ هل عَبروا الحُدود؟ عُدت إلى نَفسي وَضَحكتُ بِصوتٍ عَالٍ، نَعم ضَحكت لأنني اكتَشفتُ سِّر إصرَار “أبي العَبد” العَجيب لي لِقِراءة الرِّواية.

مَضت سَاعات وَأنا انتَظِر عَودة الكَهرُباء لأكتَشف نِهاية الرِّواية، مَللتُ الانتِظَار مِثلَما مَلَّ أبو قَيس وأسعَد وَمروَان الانتِظَار فِي الخَزان. فَكرتُ مَالياً مَاذا كُنت سَأفعل لَو كُنت مَكانهم، فَلم أجد إلا جَواباً وَاحداً لسؤالي هذا، سَأصمُد وأصمت، لَن أطرق جِدَار الخَزان حتّى لا يَكتَشِفوا أمرَنا، سَأموت عَلى أمل أن يَحيا أحدُنا لِيُكمل المَسيرة، فَهذهِ حَياة مِن أجل حَياة. خَانني جَسدي المُرهَق مِن تَعب النَهار هَذه المَرة، سَقطت الرِّواية مِن يَدي وَغَرِقتُ فِي النُوم.

التدوينات المنشورة تعبر عن رأي كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي زمن برس.