ما هو الإنسان في مدن أخرى غير وطنه؟

ما هو الإنسان في مدن أخرى غير وطنه؟

يوميات

-من مدينة طنجة

أعيش اليوم ومنذ 5 شهور في رأس إفريقيا الشمالي، في مدينة طنجة المغربية. بدايتي مع المدينة كانت عبارة عن سؤال ما الذي يكّون العلاقة الفطرية بين الإنسان وأرضه (وطنه)؟ وما هو الإنسان في مدن أخرى غير وطنه؟

في البداية، اعتمدت المشي المجهول في الشوارع والزنقات، ورغم ذلك لم أتأقلم بسرعة مع روحها وطابعها، شيء ما كان ينخز الروح ويبقيني على الحياد، أحمي نفسي من السقوط بغتة في هوى مدينة لم تستقر يوما ما في تاريخها على هوية. ربما عليّ أن أخوض صراعا مع نفسي كما خاضت هي عدة صراعات في الماضي، وفي النهاية أصبح لها هوية.
هويتي أنا واضحة، فلسطينية المنشأ والتكوين والقضية وتراب جسدي حصري يعود لقرية من قرى مدينة جنين شمال الضفة الغربية.

طوال خمسة شهور كنت أبحث ولا زلت عن مكونات هذه العلاقة. وجدت بعضها متناثرا هنا وهناك، ووجدت بعضها الآخر عن طريق الصدفة، أما غيرها فوجدته بعد جهد طويل من السعي والبحث. قد يكون هذا البحث على شكل حديث مع صديق اكتشفته للتوّ يشاركني نفس الاهتمامات ونفس القلق على المدن، وخاصة تلك المدن التي تكبر بسرعة متجاوزة سرعة نموها الطبيعي كمدينة طنجة. لذلك لا بدّ من التحدث إلى شخص قريب يقاسمك فنجان قهوة ما حملته من وطنك في قلبك وذاكرتك. طنجة تختلف مثلا عن بيروت أو دمشق أو سوريا أو عمان، هذه المدن قريبة لفلسطين جغرافيا وفكريا وناسيا (الناس) أما طنجة البعيدة لا تشترك مع فلسطين إلا بآخر رمق من البحر المتوسط وبعدها ينفصل، أتمنى ألا تأخذني هذه المدينة بهذا المأخذ، نصف رمق وبعدها أتحلل من فلسطينيتي. هذا قلقي الدائم.

المكون الأول لهذه العلاقة كان الشتاء، انتقلت إلى طنجة في موسم الشتاء وسكنت بها، كان شتاء مبتورا نقصته رائحة التراب ورائحة الخبز، ورائحة كانون الفحم كذلك وصحن العدس "المجروش" وصوت المزاريب، وكل ما يشكّل الحياة القروية من معالم وحدود، في قريتي كانت حدودي مثلا البيت وحاكورته، و"الخبصة" التي تلي زيارتي لها خلال فصل الشتاء لأتفقدك وأتابع نمّو الزعتر أو السبانخ أو غيرها من الورقيات، أو أملأ "شوال الفحم" وأعود، والحدود تتسع بزيارة بيوت الأقارب والجدات والجارات اللواتي يحلفن بأن الشاي جاهز للشرب، فيجب عليّ الدخول وتخطي عتبة الدار، وأطيب الشاي ما كانت تعدّ زوجة خالي بإضافة ورق الليمون الأخضر إليه.

انتهى الشتاء ولم أعثر على شيء، سوى أن رائحة الشاي "الأتاي" المغربي بالنعناع بدأت تأخذ محلها أيضا في الذاكرة، أهي مكونات ومعالم جديدة؟ هل يجوز للإنسان أن يختار في حياته وطنان؟

أنا المحظوظة بفلسطين، وأعني أكثر الياسمين الذي نما في حارتنا، الياسمين الذي يدلّ علينا ويذكرنا ببعضنا البعض فيما إذا رحلنا أو ابتعدنا، الياسمين علامتنا في ليالي الصيف، ليالي الأنس فوق أسطح منازلنا وأحاديث الحيّ المنتشرة في الهواء عندما يحلّ الصمت أو الركون إلى حضن الليل، لا ندع الياسمين لوحده يخترق مسام جلدنا، كان موسم نضوج "الجرنك" أي البرقوق يحلّ بحلول الصيف ورائحة الياسمين.

أنا المحظوظة مرة تانية عندما مشيت منذ أسبوعين تقريبا من شارع يوسف بن تاشفين في طنجة وصولا إلى شارعها المشهور شارع المكسيك، شيئا ما خبطني ولأجله وقفت في الشارع المزدحم ناسا وسيارات، كانت ياسمينة ساحرة تطلّ بجانبها من كنيس يهودي على الشارع، تخشبت في مكاني والناس تمّر من أمامي، وتساءلت هل يمرون فعلا من هنا؟ هل عرفوا يوما ما سرّ الياسمينة هذه؟ عدت إلى الياسمينة وفكرت في كيفية الوصول إليها خصوصا أن ذلك الكنيس يبدو كمقبرة أو مكان مرصود لا يمكن الاقتراب منه، ولكن فيما بعد مشيت مسافة أطول إلى شارع مختلف تماما وتلقفتني ياسمينة أخرى في حديقة أحد الأماكن. الياسمين جاء لرحمة الذاكرة، وليحميها من التوجع.

ولكي أنبثق من جديد في هذه المدينة، والانبثاق كلمة ترتبط بطائر "العنقاء" الأسطوري، عليّ أن أطلب من حارس الياسمينة أن يقص لي غصنا، وسأبدأ برعايته في بيتي، هكذا يبدأ الإنسان في مدن أخرى غير وطنه؛ عليه أن ينبثق من خلال الحنين إلى مكونات وطنه، وهذا ما يجعل روحه محفوظة ويسقيها أكثر بالحنين إليها والكتابة الجنونية أكثر عنها، ثم يبدأ يضيف مكونات جديدة من مدينته الجديدة، كأسماء الشوارع أو يزور "فينوس" في متاحفها. 

 

التدوينات المنشورة تعبر عن رأي كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي زمن برس.