مانديلا ..والعجزة في جيش الاحتياط ..

لربما لا أتذكر ملامحه جيداً كوني أصغره بأعوام كثيرة ولأني لا أعي تلك الأيام جيداً ولكن من يعرفونه يقولون إن العمر خط على جبينه بعض حروف الكبر ، فطاهر زيود من سيلة الحارثية قرب مدينة جنين،  الذي اعتقل قبل واحد وعشرين عاماً،  كان شاباً عشرينياً حين ذاك وها هو اليوم ينتصف الأربعينات ومع ما اجتمع عليه من عمرين عمر الحرية وعمر الاسر الا أني رأيته يتمتع بحيوية تفيض شباباً وتملؤها العزيمة والإرادة القوية ، فسنوات الأسر لم تنقص من عزيمته وإصراره كما نطقت عيناه ، ورغم الأعوام الطويلة التي ذاق فيها طاهر مرارة السجن وسجانيه وعانى فيها من الفراق والحرمان والألم ما عانى إلا أنه تنفس رائحة الحرية وهنا اجتمعت في ذهني صورتين لمقارنات عديدة مشروعة ، فالأولى عندما اعتقل طاهر وأدخل الى سيارة الجيب العسكرية وأنا كالكثيرين لم نشاهد هذه اللحظة ولكني اتخيلها فنحن شعب لديه مخيلة مليئة بالصور المشابهة لما عاناه ويعانيه من ظلم جلاديه ، فطاهر يدخل سيارة عسكرية يحرسه جنود وينتظره حكم بمدى الحياة لعمل ثوري قام به.

 ومع ذلك فطاهر لا تفارقه الابتسامة، ابتسامة الثائر، الواثق أن حكماً بمدى الحياة هو حكم غبي ولا شك، فهو أطول من عمر سجانيه ، فيصنع مجده الثوري بتلك الابتسامه التي يحتار منها الاحتلال ولا يفهم معناها، ولا يستطيع تفسيرها إلا بعد أكثر من عشرين عاما لتظهر الصورة الثانية ، وتبدأ ملامحها تتضح فطاهر يخرج بعد هذه السنوات ينبض بالحيوية والطاقة والسعادة  وجنود معبر بيتونيا الذين كانوا في حالة هسترية غاضبة أمس لربما كانو أيضا ابناء الجنود الذي اعتقلو طاهر قبل عقدين من الزمن ، والمقارنة هنا لصالح طاهر مرة ثانية فهم ارهقهم العجز والسنين واحيلوا إلى جيش الإحتياط ، وهو قائد ورمز ثوري كبير يحتفل به كل فلسطيني في كل مكان.

 ومشهد آخر من الصورة  فطاهر يخرج من حافلة مدنية يرافقه قادة ووزراء وقادة فصائل وأصحاب سعادة وسمو، ورئيس، ورموز ثورية ، يريديون التقاط الصور بحضرته، وبثقة وهمة عالية ودون تدريبات بروتوكولية يحمل ذلك الثائر القديم إكليلا ليضعه على ضريح ثائر قديم آخر ، وقائد غيبه الموت عن اللحظة، ويقرأ له وصحبه فاتحة الكتاب ، ثم يعتلي منصة القيادة ، ليبتسم ويلوح بإشارة النصر، طاهر رمز للآخرين من الأسرى القدامى الذين تجاوزت أعمارهم في السجن أعمارهم في الحرية ، وأنا هنا استحضر صورتين أخرتين لأعقد مقارناتي المشروعة مرة أخرى، طاهر ومئة أسير ونيف وسبقهم من قبل في بلدنا وحدها ثلاثة آخرون أمضى كل منهم  أكثر من عشرين عاماً  في غياهب السجن.

 وسينكر البعض كلمة قائد إن ما أطلقتها عليهم جميعاً فأي شعب هذا الذي يزيد قادته على المئة، وانا أقول هم أكثر من ذلك ، فإن كانت شرعية مقاومة العنصرية التي أمضى بسببها نيلسون مانديلا عشرون عاما أو يزيدون قليلاً(27) مثل طاهر ورفاقه وكلهم تجاوزت أعمارهم السجنية  العشرين ،(فالفارق الثوري لا يتجاوز الأعوام الخمسة ) فيخرج مانديلا زعيماً لأمة وقائدا لفكر وصاحب طريقة ثوية ورمزا كونياً للنضال ، فإننا اليوم نملك المئات أشباه مانديلا التي تصلح أن تقود ثورة ودولة وأمة .

 استحقاق الحرية ونسيمها التي تحدث عنها أسرانا المحررين وفرحتهم المنقوصة حزناً على من لم يلحقوا بهم ،وإشارات النصر والابتسامة الـخيرة ربما كانت تفسر لمن اعتقل طاهر قبل عشرين عاما لماذا ابتسم ابتسامته الأولى رغم أن حلم الحرية استغرق كل هذه الأعوام ، فطاهر كان ثائر واصبح اليوم قائد .

التدوينات المنشورة تعبر عن رأي كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي زمن برس.