ليست القدس التي أشتاق

بقلم: 

-"مين أحلى؟ القدس ولّا رام الله؟"
سألني السائق بسذاجة و كأنّه يحدّث طفلةً في السادسة.
- "القدس حلوة، الناس مبشّعينها اليوم". رددتُ متعبةً، أقف و أقدامي ثقيلة أتمسك بالأعمدة جيداً حتى لا أقع على الزجاج الأمامي للحافلة.

مضى على آخر زيارة لي للقدس سبعة أعوام، و من الصّعب حقاً أن أنساها و صورتها تعانق جدار واجهة الجلوس في منزلي. تخيّلتُ أنّي سأبكي حين أزورها، ستغمرني المشاعر و ستغرقني دموعي... و بالفعل كانت دموعي على طرف عينيّ حين لم أقوَ على النظر إلى قبة الصخرة من الهلاك...
هلاكٌ بدأ صباحاً حين وصلنا القدس، و لم يكن شارع صلاح الدين مفتتحاً محالّه كلّها بعد، الأسعار عالية مقارنةً بما في خيالنا، البضاعة أقلّ "صرعة" ممّا ظنناها. و القطعة التي أعجبتني، لم يدعني البائع أن أجرّبها، لأنّه لا يملك غرفة قياس على حدّ قوله.
خيبة أمل لم نُعطها فرصة لتنهض بنفسها حتى، و لم ننتظر المحالّ لتشرّع أبوابها! و بدون أيّ عذرٍ ذهبنا إلى شارع يافا.
ما أقبح الشعور! حين تشعر أنّك كاذب، تقاطع البضائع التي ينتجها الاحتلال من أصغرها حتى أعظمها، و ثم تجد نفسك تتيه في سوقٍ يعجّ بالأعداء، و يغرس فيك عقدةً تُشعرك بأنّك ضئيل...
ضئيلٌ لأنّ الشارع نظيف، و لا أحد يلتفتُ إلى أنّ أفخاذها عارية سواك، و لأنّك لم تنتبه لإشارة قطع الشارع للمشاة فكدتَ تُدهس! و لم تعرف كيف تستخدم القطار، و هي تحادثك بالعبرية مراراً و كأنّها لا ترى عربيّتك و فلسطينيتك في عينيك. تشعر بأنّك ضئيل لأنّك هناك!

في الطريق إلى الأقصى اقتربتُ إلى الهلاك أكثر، الازدحام قاتل، و الأجسام متراصة، و الرؤوس متقاطعة، و بعض النفوس مريضة!
شعرتُ بالقرف و الضعف و الغثيان، و الأيدي الممتدة لم يقطعها وجودنا هناك للعبادة!

مرّ بلحيته البيضاء ووجهه الذي لا يمتّ للسماحة بصلة و صرخ: "حرام! حرام! البسوا ع روسكم الدنيا رمضان!".
و عندما فقدنا الطريق و لم نعلم أي زقاق يؤدي للأقصى، سألنا أحد المارّة، فقال بعد أن أدرنا وجوهنا بلحظات فقط: "هدول رايحين يصلّوا بالله؟ مبيّن!".
مع العلم أنّنا نلبس أكماماً طويلة و قميصاً واسعاً محتشماً طويلاً، و حتى شعرنا ليس منسدلاً، و لم نصل المسجد بعد على كلّ حال!
قبل أن ندخل ساحة قبة الصخرة صرخ بوجوهنا:" البسوا أواعي الصلاة!" قلتُ له: "ستتسخ في الطريق و تفقد طهارتها! - لم يكترث و صرخ بصوتٍ أعلى: "البسي!"
و بعد أمتار، صرخ آخر لا نعرف من أين أتى: "نزّلي تنورة الصلاة! الدنيا رمضان!"
يا رجل الأرض متسخة! و لم نرفع التنانير سوى شبر واحد حتى لا نجرّها خلفنا، ثم من أنت؟؟ أيها الخاشع المرّكز، المنتبه لعبادتك، كيف انتبهتَ لشبر من بنطالي!؟

آخ بدأ الهلاك يزداد، و أقسم أنّي لم أنتبه حتى للمعان القبّة من شدّة الاستياء.
دخلنا إلى الداخل، مكان الصلاة!
بالكاد استطعنا المشي بالداخل، العديد العديد ن النساء "تلقحن" على الأرض و استغرقن بالنوم. "دخيلك اليوم الجمعة و الدنيا رمضان و الناس فوق بعضهاـ و إلك عين تنامي بالطريق؟".
شتمن بعضهنّ، و الكلّ يمرّ من أمام المصلّين، الكل يصرخ، و الازدحام قاتل.
و هناك امرأة تعطي مجموعة نساء درساً و تقول: "لن تشمّ رائحة الجنة! لن تشمّها! من تحشو حجابها لترفعه و يكبر حجم رأسها!"
الحمدُ لله، طبق الناس أحكام الدين جميعها، و تحرّرت البلاد، و أُطعم الجياعى و نُصر المقهورون، و لم يبق سوى شكل حجاب فلانة و علتانة.

آخ، أين الخشوع؟ أين الدموع التي أردتُ ذرفها خشوعاً و ذرفتها قرفاً و استياء!
و تكتمل المأساة و الهلاك حين تقف تنتظر الحافلة ليزدحم الجميع ثانيةً، و تلقى لكمة من هنا، و تموت غيظاً أو اختناقاً بالعرق!
و ما زال أحدهم يصرخ:" مسجد المرأة بيتها، لليش جايات؟ عشان يلزّوا عليكم الشباب؟؟؟"
و يصرخ آخر:" انتوا صايمين؟ انتوا جايين تصلّوا، و الله ما حدا انقبلت عبادته"!

لا أقارن المقارنة السخيفة هذه لأقول أنّ الأعداء أفضل منّا أو عقولهم فذّة، و لن أغرس عقدة المستعمر و لن أغنّي "قلبي عاشق دبّاحه!"... لكن لأقول إنّ القدس على مرمى حجر و فِكر!
فِكر فِكر!

و آسفة لأنني كنتُ انهزامية و ضعيفة اليوم بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى و لكن ما انفكّت كلّ نسمة هواء و كلّ حجر في الطريق و كلّ وجه متعب في الوطن يردّد في أذنيّ: "اهربي! اهربي! اهربي!".

و أعدك يا قدس أن أنسى هذه الزيارة و ستبقين في مخيّلتي حسناء القداسة و قطعة من السماء على الأرض.

التدوينات المنشورة تعبر عن رأي كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي زمن برس.