ماذا رأينا في مرآة محمد عساف

 
هل كان التأييد والدعم من قبل الفلسطينيين لمحمد عساف لاستثنائية وتميز صوته وإبداعه في الأداء الذي يبتعد عن التقليد فقط، أو لأن فلسطين وقضاياها / آلامها ممثلة بالقدس والشهداء والأسرى والجرحى كانت حاضرة وطنياً في وجدانه وليس كشعارات تسويقية لأجندات شخصية وسياسية وحزبية؟ أم ماذا؟
هذا التأييد والدعم الذي حظي به هذا الشاب الذي ترعرع في أزقة مخيم خان يونس هل كان فقط من أجل الفوز بلقب "محبوب العرب" مع أهمية هذا لنا جميعاً كمشجعين لعساف من اللحظة التي غنى فيها "يا طير الطاير" وذكر مدننا المحرومين من رؤيتها، وأيضا هل كان هناك ما هو أعمق من ذلك، ما لمَّح إليه عما كنا نعتقد أنه مات واندثر فينا؟ ماذا رأينا عن الكيفية التي نود أن نكون عليها من خلال مرآة محمد عساف؟
هذا الشاب الذي غنى منذ طفولته، تعب على تطوير موهبته وصقلها ودرّب نفسه (مع مساعدة الآخرين بالطبع)، وبتصميم وصبر لافتين، عندما شارك في بدايات "محبوب العرب" قبل أن يكون له هذه الهوس الجماهيري قالت لي إحدى الشابات من غزة حين سألتها عنه: "محمد عساف! زهقناه، ما في مطعم، ولا حفلة ولا خطبة ولا عرس إلا ومحمد عساف هناك بيغني..."، وقالت شابة أخرى: "يا لطيف...محمد عساف يعني لي القصف... فبعد كل قصف إسرائيلي كان يطلع محمد عساف ويغني لنا "شدي حيلك يا بلد..."، كم هي بعيدة هذه التعليقات الآن بعد أن أصبح عساف ما يميز برنامج "محبوب العرب"، ولا أستغرب إذا ما غيرت الفتاتان رأيهن الآن بعد أن بدأ تاريخ آخر له. أصدقائه يقولون إنه كان يدفع المواصلات من جيبه للذهاب إلى الحفلات، ويشير "أستاذه" النجار أنه لم يكن يتقاضى أجراً. كما قالت تلك الفتاة، كان موجودا في كل مكان يغني، يتدرب لما أصبح جائزته.
هذه مدرسة عساف، المدرسة التي أتاحت له "الدراسة" المعفي من امتحاناتها كما قالت نانسي عجرم، فقد قدم امتحاناتها كثيراً ومراراً وتكراراً من قبل، ما أتاح له الفرصة لتعلم التحكم في صوته، والتجربة في الأداء، والعفوية على المسرح، وعدم الخوف من الجمهور، كان هذا تدريبه الأساسي، فدرب نفسه ولم يبخل عليها، فراحته وثقته بنفسه تأتي من مئات ولعل آلاف المرات من الوقوف أمام جمهور، ولم تأتِ له جاهزة دون تعب، دون ثمن.
ولعل هذا أول شيء يجب أن نراه عن أنفسنا بمحمد عساف، ولكن بنفاق.
فالأمثلة كثيرة عن عدم أخذنا الأمور بجدية في حياتنا، تكاسلنا، تهاوننا، "شلفقة" ما نقوم به، وكأننا نقوم به للغير وليس لأنفسنا، عدا عدم الاستفادة من الفرص المتاحة لنا لأننا لا نريد أن نتعب، أو لأنها تتطلب جهدا، أو لأنه لا يوجد عائد مادي منها، طالبين العائد بدون التعب، متناسين العائد الذاتي من تطوير أنفسنا، ومن "إتقان كل ما نقوم به" والذي هو جزء من احترامنا لذاتنا...أو اللجوء إلى الطرق المختصرة السريعة التي نعتبرها "شطارة" مثل الواسطة، الفهلوة، الكذب، المكسب، التنافس غير المبدئي، عدم الموضوعية في تقييم الآخر بل تحطيم نجاحه، والتقييم غير الواقعي للنفس والقدرات، ومارد الذاتية والأنانية، والشعور بالأحقية في الحصول على الفرص والأشياء، عدم التعلم من الأخطاء، لا، بل عدم الاعتراف بها للتعلم منها. اللائحة تطول بسوسة الوهن الأخلاقي والمجتمعي الذي أكل فينا ما سمحنا لها به، والذي أصبحنا نعتبره العادي والمغاير له هو النشاز.
ولعل ما نريد أن نراه عن أنفسنا في مرآة محمد عساف أيضا هو العفة. وهنا لا أقصد العفة بالمعنى السائد لها أي العفة الجنسية، ولكن العفة بكامل قوتها وبعدها.  فعندما بقيت الساحة لأربعة فقط، وكان واضحاً أن التنافس الحقيقي هو بين اثنين، محمد عساف وأحمد جمال، خاصة عندما أعلن أن أحمد حصل على أعلى الأصوات التي تؤهله بأن يكون في منطقة الأمان بدأت الحرب الضروس بين مشجعي الاثنين وفيها الكثير من الإساءات لبلدان بعضهم البعض – فلسطين ومصر. وكان تغريد مهم من محمد عساف (كما نشرت على صفحة يوتيوب لأغنية "صوت الحدى")، "يؤسفني أنني قرأت تعليقات على بعض صفحات التواصل الاجتماعي تسيء لأوطاننا وخصوصاً لفلسطين ومصر، لذا أرجو من الجميع، المعجبين بي والمعجبين بغيري أن تردوا على الإساءة بالكلمة الحسنة والابتسامة، إن خسارة اللقب لن يحزنني بقدر ما يحزنني مشاهدة تعليقات فيها إساءة لشعوبنا وأوطاننا، وأقول للمعجبين بي وبصوتي أن مصر هي أم الدنيا وهي مصر العروبة، مصر ليست رئيسا أو جماعة، مصر ليست محمد أو أحمد أو أي اسم آخر، مصر هي مصر التي نعتز بها جميع.."
لا أظن أن هذا يتطلب تفسيرا أو تعليقا، فقط تذكير بالهجمات التي نشنها على بعضنا البعض على مستوى فردي، وشخصي، ومؤسساتي وسياسي وهلم جراً، ومعظمها بدون حق، بسبب الغيرة، أو للحصول على شيء أو لعدم الحصول عليه، أو لأننا نريد الفوز والمكسب كل الوقت بحق أو دون حق، فلا نقع أرضاً من هول مفاجأة نجاحنا بل نتوقعه ونخطط له ونبرد السيوف للقتال من أجله لأننا نستحق كل شيء دون تعب أو جهد، لأننا نقع أرضاً عندما لا نفوز!
ولعل هذا ما رأيناه في مرآة محمد عساف، وذلك الشيء الخافت الذي لم يمت حتى الآن بداخلنا عرفه، ودفعنا للتقرب منه.
 
* باحثة سينمائية

التدوينات المنشورة تعبر عن رأي كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي زمن برس.