مسألة يوسف الشايب: من جذر الحكاية

adli_sadikkk

تناولت الكاتبة الإسرائيلية اليسارية، عميرة هس، في صحيفة "هآرتس" الصادرة أمس الأول؛ موضوع الصحفي يوسف الشايب، الذي اعتقل على أرضية تقرير يتعلق بسفارتنا في فرنسا. وفي تناولها للمسألة، لم تطرح عميرة رأياً بقدر ما عرضت بعض تطورات القضية، مع آراء حولها تعزز الفرضية القائلة بأن اعتقال الشايب، جاء مخالفاً لحرية الصحافة الاستقصائية، ومجافياً لحق الصحفي في التكتم على مصادر معلوماته!

السيدة عميرة هس، التي تقيم في رام الله، وتؤيد حقنا في دحر الاحتلال والاستقلال والحرية، أدلت بدلوها على النحو الذي لم يفعله كثيرون تجاهلوا الأمر (وكاتب هذه السطور واحد منهم). وفي الحقيقة، إن كانت مجمل الدساتير في البلدان الديموقراطية، تجيز حرية التعبير بالكلام وبالخطابة، وعبر كل وسائط الإعلام؛ فإنها تشدد على الصلة الوثيقة بين هذا الحق ومحدداته، التي تراعي حقوق الآخرين، المنصوص عليها في الدساتير نفسها، وجوهرها صون سمعتهم وكرامتهم وحمايتهم من أية اتهامات جزافية!

موضوع السفارات الذي تُذكّر به هذه القضية، تناولناه مراراً في هذه المساحة بلغة أخرى، ونبهنا الى ضرورة إيلاء شبكة السلك الديبلوماسي ومحيطها الاجتماعي الذي تمثله الجاليات، أهمية قصوى، لأن جوهر عمل بعثاتنا، على صعيد علاقاتها بالفلسطينين والعرب (فضلاً عن أداء المهام الأخرى على أصعدة اخرى) هو تكريس وجاهة وصوابية الطرح الوطني، وكسب تأييد شعبنا له، لأن المحامي السيء لقضية عادلة هو أكثر من كافٍ لإلحاق الخسارة الكارثية بها. وأنا هنا أتحدث بشكل عام، إذ لا علم لي بحيثيات الموضوع الذي تناوله الشايب في التقرير الذي نشرته صحيفة أردنية، علماً بأن هذا التقرير افتقر الى الفنيات التحريرية التي تحمي ثغراته. فالصحفي يقرر، وفق "مصادر متطابقة" أن بعثة فلسطين الى فرنسا "متورطة في قضايا تجسس وعربدة" ويزج أخونا الشايب بأسماء أشخاص ليسوا من البعثة، وإنما هم من المسؤولين، باعتبارهم شركاء في هكذا عملية، فضلاً عن اتهام البعثة بمجملها، وعلى رأسها السفير الذي نعرفه ونعلم أنه أبعد ما يكون عن هكذا ممارسات. فليس من حق الشاكي ولا الشايب، أن يتزيد في طرح الشكوى من ممارسة ما، وفي تغطية الممارسة وإشهارها، فيطيح بتاريخ أي إنسان مناضل ويحيله الى جاسوس، ثم يقال بعدئذٍ إن المسألة تتعلق بحرية الصحافة. وحتى في التقرير نفسه، الذي نشره يوسف الشايب، هناك دعوة للسفير بـ "رفع" الغطاء عن شخص بعينه، الأمر الذي يعني بأن شخص سفيرنا، كان في التقرير ذاته مشمولاً وغير مشمول في الاتهام!

مقصد هذه السطور، هو التنويه مرة أخرى، الى أهمية المتابعة من قبل الجهات المسؤولة، والتحقيق بجدية وسرعة، فيما يرد اليها من شكاوى، والتوصل سريعاً الى استخلاصات حاسمة، بسبب حساسية المهام التي يضطلع بها الديبلوماسيون، لكي لا تتحول الحكايات الى مواد تُستغل في غير مكانها وفي غير وقتها، للتحريض ضد الحركة الوطنية الفلسطينية. فالرأي العام الفلسطيني، يتوزع على اتساع المعمورة، بل إن هناك جزءاً مُضافاً اليه، تمثله عناصر القوى الإسلامية العربية. وفي كل بلد، هناك رأي عام فلسطيني مصغّر، كالقيامة الصغرى، فإن لم يشاهد هذا الرأي العام، بأم عينيه، نزاهة العمل الوطني الفلسطيني، ستكون من بين الأضرار الكثيرة، أن يفتش هذا الرأي العام لنفسه عن مسارب تحتية أو مبهمة، يدس فيها ومعها الوسواسون الخناسون حيثيات ملفقة. فلا يختلف اثنان، على وضعية العجز التي تعاني منه الوزارة المعنية بإدارة شبكة السلك الديبلوماسي. بل إن كل ذي صلة بهذه الإدارة مُطالب بأن يراعي عناصر مهمة، لا بد أن تحكم كل قرار، وأن لا تُهمَل بتاتاً مسألة الوقت، لكي لا تتراكم المشكلات ويبقى زمن حلها مفتوحاً بما يعني أنها متروكة على حالها المسيء. فالمسائل ينبغي أن تُحسم بالقرار المستند الى القانون والى أعراف ومسلّمات بديهية، وأن لا تحال مسؤولية البت في العالق من الإشكالات، لمفسرين رديئين وذوي حسابات صغيرة ونوايا مسبقة.

في موضوع يوسف الشايب، ظهر على "يوتيوب" شريط مصوّر لشاب فلسطيني يعرض شكايته على الرئيس، ويُقر بأنه هو أحد المصادر التي استقى منها الشايب مادته. ولا بد ان تكون الشكاية أرسلت مبكراً الى الجهة المعنية، ولم يكترث بها أحد، فتغالظت لغتها على النحو الذي سمعناه من الشاكي، ليصل الأمر الى اتهام جزافي لنجل أحد أنبل شهدائنا من قادة العمل المقاوم، بالتعامل مع قاتلي أبيه. علماً بأن هكذا تعامل أو جوسسة، مخالفة لطبائع الأمور والبشر، بل إن اتهاماً كهذا، يُعلي من شأن العدو، لأن الله وحده سبحانه، هو الذي يُميت الناس فيزداد آباؤهم وأعزاؤهم طاعة له وتقوى. لكن هذه المسائل، تحتاج الى البت العاجل توخياً للنزاهة وتلافياً للتأويلات، من منطلق أن لكل فلسطيني الحق في الكرامة أينما كان. ومثلما هبّت وزارة الشؤون الخارجية للدفاع عن سمعتها، فقد كان واجباً عليها أن تستبق تفاقم أية مشكلة بمعالجة مسؤولة، تراعي كرامات الناس، وأن تكون قد حصنت نفسها من خلال اتباع آليات عمل مستندة الى القانون. وعندما تجري الأمور بمعيار أحادي، ويؤخذ الصحفي الى التوقيف، يتسع المأزق ولا يكون المردود إيجابياً على أي طرف، سوى أولئك المعنيين بذم السلطة والتشكيك في القضاء وفي الأجهزة الأمنية. إن الساتر الحقيقي في مثل هذه الوقائع، هو الشفافية والأخذ بالمقتضى الإداري الصحيح، للتحقق من أية شكوى ومن أي بلاغ، واتخاذ الإجراءات المناسبة وإعلام الرأي العام بالنتائج. فها هي عميرة هس، تجعلنا خصوماً للعمل الاستقصائي في الصحافة، علماً بأن ما جاء في تقرير الشايب، أغلبه بُني على تعليلات لحدث ربما يكون وقع بالطريقة التي عبر عنها الطرف الشاكي، لكنه اعتمد فرضيات ظنيّة، ومنطقاً تخوينياً، وعرض الصورة الشائنة وكأنها من اليقينيات. ولم يكن مثل هذا التقرير سيُكتب ويُنشر، لو أن المسألة عولجت بسرعة واقتدار. من هنا أصل القضية. فالمشكلة لم تبدأ بالتقرير ولا تنتهي به، ولم تبدأ بحبس الصحفي ولا تنتهي بإطلاقه وطي ملف القضية. لقد كان الصحفيون الوطنيون، حيال هذا الموضوع، محرجين بين أمرين: الدفاع عن حرية التعبير مع ضرورة التعاضد بين الإعلاميين من جهة، والحرص على نراهة الصحفي وموضوعيته، وعلى الأخذ بضرورات التزامه بمحددات الحرية وشروطها، من جهة أخرى. لذا أصبح واجباً التذكير بضرورة المعالجة، بدءاً من جذر الحكاية!

www.adlisadek.net

adlishaban@hotmail.com