شركة كهرباء القدس: مَعْلم وطني تاريخي

يأثم من يتعاطى مع محنة شركة "كهرباء محافظة القدس" باعتبارها مجرد مشروع أوصلته الدروب الشائكة، في زمن الاحتلال، الى حال التعثر. فلا بد من تسوية، تنتشل هذه الشركة الأهلية الفلسطينية من عثرتها، وتُبقي عليها معْلماً يحكي قصة استحواذ المجتمع الفلسطيني، على مشروع مبكر، لتوليد الطاقة الكهربائية، بدأ بمستثمر يوناني في أواخر العهد العثماني، ومر بمراحل سجال، حتى جرى تعريبه في العهد الأردني، برعاية بلديات القدس الشرقية ورام الله والبيرة وبيت لحم وبيت ساحور.

فمنذ العام 1957 كانت شركة كهرباء محافظة القدس، أيقونة الاستثمار على خط التنمية والنهوض الحضاري للمجتمع الفلسطيني. وأذكر ونحن في سجن بئر السبع، في أواسط السبعينيات، أن صديقي الأسير (والشهيد فيما بعد) خليل أبو خديجة، من الجبهة الشعبية، كان يُباهي بامتلاكه بضعة أسهم في شركة كهرباء القدس.

منذ ذلك التاريخ، أصبح أمرها لافتاً للعبد الفقير الى الله. وعلمت فيما بعد، أن المُنشئ الأول للشركة، في العام 1914 هو مستثمر يوناني ومتدين مسيحي، اسمه مفروماتس، حصل على الترخيص وابتهج به ليس توخياً للربح، وإنما تبركاً بعمل يضيء زهرة المدائن، وتصبح له رمزية جعلت بلده، اليونان، فيما بعد، ينازع حكومة الانتداب وهربرت صموئيل، على الحق في الترخيص، فيما كان هذا الصهيوني الذي ولّته بريطانيا على بلادنا، فبات مندوباً "سامياً"؛ يميل الى تمليك المشروع للزعيم الصهيوني المتطرف، من أصل روسي، المهندس بنحاس روتنبرغ. وهذا الأخير، هو مؤسس الفيلق اليهودي في الجيش البريطاني كأول خازوق عسكري صهيوني في بلادنا.

اليونانيون أيامها ـ يا من تهملون شركة كهرباء القدس ـ ذهبوا بالمنازعة الى محكمة العدل الدولية، لانتزاع ملكية المشروع لصالح المستثمر المسيحي. خسر صموئيل الصهيوني الدعوة، واضطر الى دفع أكلاف القضية، مع إرجاع الترخيص العثماني لصاحبه، مع رفع سقف طاقة التوليد، بينما افتتح روتنبرغ شركة منافسة شاركت في الإضاءة وتزويد المستوطنين بالطاقة. ثم انتقلت الملكية بالتراضي، الى شركة مساهمة محدودة، أسستها البلديات الفلسطينية المذكورة، ليتحقق تعريب الشركة التي نشأت على أرضنا وفي مدينتنا الخالدة. وضم مجلس إدارة الشركة، أسماء أعلام وطنية دخلت التاريخ الاجتماعي ـ الاقتصادي الفلسطيني، كرواد عملية استحواذ على أحد دعائم التنمية في البلاد.

ومن بين هذه الأعلام قوميون وإسلاميون ومسيحيون، فلسطينيون وأردنيون، منهم المرحوم حمد الفرحان، مؤسس فرع حركة القوميين العرب في الأردن، وعبد المحسن أبو ميزر، عضو تنفيذية منظمة التحرير الفلسطينية الأسبق، ونهاد أبو غربية وإلياس البندك وروحي الخطيب وسواهم. وباتت الشركة تغذي بالطاقة الكهربائية، مدينة القدس الشرقية ونحو مئة وخمسين قرية في مناطق رام الله وبيت لحم وصولاً الى أريحا.

وقد تتابعت الحكاية والعهود، وتقلبت الأيام، لكن شركة كهرباء القدس، ظلت قائمة تذكّر بتاريخ وتحافظ على رمزية عمل أهلي فلسطيني جماعي مستنير. اليوم، في المؤتمر الإسلامي، يُعاد طرح موضوع القدس.

ويصح القول إن شركة بهذا التاريخ، وبهذه الحكاية، تستحق الإغاثة الفلسطينية والعربية والإسلامية، لكي تستمر ولكي لا تُحال الى قائمة العلائم التي قُطعت عنها شرايين الحياة، وتُركت لكي يخنقها الاحتلال ويصفي وجودها. فمثلما أضاءت للناس، قبل أن تُضاء بالكهرباء معظم الأماكن المأهولة في المنطقة العربية؛ لا بد من إضاءة النفق المعتم الذي وُضعت فيه، لتتلمس طريقها الى النور وتبقى!