الأنفاق: مئات "المليونيرات" على طرفي الحدود، فكيف ستدمر؟!

ربما كان من الأهمية بمكان أن يبدأ روّاد البحث العلمي في مجال الاقتصاد والمال إجراء مجموعة من الدراسات حول اقتصاد "الأنفاق"، كونها ستكون دراسات غير مسبوقة على الإطلاق؛ لأن اقتصاد الأنفاق لم يكن موجوداً في تاريخ البشرية، وربما سيقتصر وجوده على قطاع غزة فقط. أولى ميزات هذا الاقتصاد أنه يتم تحت الأرض بكل ما للكلمة من معنى. ولعلّ السؤال المطروح منذ سنوات هو: لماذا سُمِحَ لهذا الاقتصاد بالنمو السرطاني وأمام أعين الجميع. حتى في ظل النظام المصري السابق، كانت تجارة الأنفاق مزدهرة، وفي الوقت الذي كانت تُمنع فيه البضائع من المرور عَبر المعابر كان يُسمَح لها بالدخول من خلال الأنفاق.

في كلمة له أمام مجموعة من الشخصيات الاعتبارية، أكد الرئيس محمود عباس أن عدد مليونيرات الأنفاق في قطاع غزة وصل إلى أكثر من 800 مليونير وأن حوالي 1600 آخرين في القطاع اقتربوا من حمل لقب مليونير. عندما نسمع هذه الأرقام؛ ندرك السبب الحقيقي وراء تعثّر المصالحة.

يقول خبير اقتصادي: إن حجم التبادل التجاري الرسمي بين فلسطين ومصر كان يصل إلى مليون دولار تقريباً في السنة قبل انفصال قطاع غزة، فيما وصل حجم التبادل الآن إلى 700 مليون دولار سنوياً، هو في الأساس مبني على اقتصاد الأنفاق. المستفيدون في الجانب الفلسطيني هم مئات المليونيرات من مافيا الفساد والإفساد بما لم تشهده فلسطين على مرّ التاريخ. إضافة إلى الحكومة المقالة التي تجبي الرسوم، دون أن يعلم أحد حجمها أو طرق صرفها أو المستفيد الحقيقي منها.

عندما نقول: إن هناك 800 مليونير فلسطيني في القطاع؛ فمن المؤكد أن يقابلهم 800 مليونير في الجانب الآخر من الحدود، هؤلاء المليونيرات لهم تأثير كبير على عدة قطاعات مصرية مدنية وغيرها، وعندما يقال: إن هناك أكثر من 1200 نفق لمسافة 13 كيلومتراً؛ فهذا يعني أن هناك أكثر من 1200 مخرج لهذه الأنفاق في الجانب المصري، منها ما هو في الشوارع ومنها ما هو داخل البيوت والمؤسسات، والكلّ مستفيد. وعلى حدّ ما يقال على سبيل الدعابة، فإن كثيراً من بيوت رفح المصرية تفاجأ بفتحة النفق في غرف نومها دون سابق إنذار، ولكن المنزل الذي يصله نفق يكون بئر نفط قد سقط عليه من السماء.

أمام هذا الواقع، فإن هذا الاقتصاد "الأسود" الذي بُني خلال سنوات الانقلاب والحصار لا يخضع لنظريات الاقتصاد المعروفة، وإمكانية القضاء عليه تبدو أقرب إلى الخيال، لأن عشرات آلاف الأشخاص أصبحوا في كلا الجانبين مستفيدين من هذا الوضع.

وحتى لو أُعيد فتح معبر رفح أمام البضائع بمختلف أنواعها وأشكالها بشكل حرّ، فلن يكون ذلك مقبولاً منهم، وربما يسعون لإغلاقه بشتى السبل الفوضوية وغير الفوضوية من أجل الإبقاء على اقتصاد الأنفاق. إضافة إلى ذلك، فإن طبيعة الجغرافية لا تساعد كثيراً على التخلّص الفعلي من عدد كبير من الأنفاق إذا علمنا أن بعضها لا يزيد طوله على 150 متراً ويمرّ من تحت المنازل.

فهل ستهدم المنازل الحدودية في رفح المصرية والفلسطينية؟! ومن يستطيع أن يتخذ مثل هذا القرار؟!. المشكلة هي في شكل النظام السياسي في قطاع غزة، الذي شجع هذه الظاهرة بل وقوننها، بمعنى أنها أصبحت قانونية في نظره. هذا النظام هو الأكثر استفادة، ومع التغيّرات السياسية الحاصلة في المنطقة وبشكل خاص في مصر، فإن الأمور لن تتغيّر، فقد يتم هدم عشرات من الأنفاق في المناطق الخالية من أجل امتصاص نقمة الشارع المصري. وقد يتم تهويل هذا الرقم من أجل تبريد الرأي العام المصري.

ولكن ما هي إلا مدة زمنية محدودة وتعود الأنفاق للعمل، لأن المليونيرات على طرفي الحدود لن يسمحوا بالقضاء على هذا الاقتصاد "الأسود" مهما كلفهم ذلك من ثمن.