صخب الحياة لا صمت الموت

انتشر عبر قناة MBC تقرير حول ما أسمته القناة بــ صخب رام الله، وتناول تلك السهرات الليلة التي يقوم بها المواطنون في ملاهٍ أو منتزهات تزخر بها المدينة، في وقت احتاج فيه الأسرى المضربون عن الطعام لما يزيد عن 85 يوما تقريرا يدعم قضيتهم ويوصل صخب الجوع الصادر من أمعائهم لأجل الحرية.

البعض استهجن التقرير واعتبر "حياءه" النضالي جريحا مما اعتقد باطن شعوره بأن مثل هؤلاء "الناس" هم سبب في "عاره" وإسقاط صورته أمام العالم مناضلا من أجل الحرية، ودافع آخرون، واستهجن التوقيت فئة أخرى. وأستغرب من تناقضنا الصريح حين نصطف جميعا جذلين مهللين لصورة أم الشهيد النادبة دماءه، ووالد الأسير كسير الخاطر معتبرين بان "الحياة النضالية" بخير، وفلسطين بخير، ثم ننبهر دهشة من حياة الآخرين خارج وطننا المنكوب قائلين : (هذه هي الحياة!)، في ذات الوقت الذي ننكر على أبناء شعبنا الرغبة في الحياة والبحث عن طبيعتها كما الآخرين !.

تلك الصورة النمطية التي يكرسها الآخرون وبعضنا في الأذهان حول حياتنا الفلسطينية بأنها لا يجوز أن تجاوز النكبة والنكسة وحرقة الدمعة في ظل النضال والكفاح الدائمين؛ صورة مغالية تدعو لحرمان الناس من حقهم الطبيعي في حياة يعيشونها كيفما يختارون أو يشاؤون دون أن ينكر عليهم أحد انتماءهم لقضيتهم أو التلميح لابتعادهم عن الهم الوطني.

ربما تكون العقود الطويلة من الاحتلال ومكافحته سببا في احتفاظ الآخرين في أذهانهم بتلك الصورة التي يمكن أن تجعل كل ما هو مخالف لها نقيض لمعاني التحرر والنضال، في مغالطة ربما تكون غير مقصودة إن اعتبرنا حسن النوايا، والخلل القبيح في تلك الصورة أو ذاك التوصيف "صخب رام الله" يكمن في تجزئة حياة الشعوب وتفصيلها بشكل منعزل عن الطبيعة البشرية ورغبة الإنسان الفطرية في متعة الحياة دون أن تكون سببا في إسقاط واجباته تجاه وطنه، فالشعوب عبارة عن كتل متحركة تضج حياة تجمع كل شيء وفق ظروفها، وتحتمل كل أشكال السلوك والأنماط الحياتية بما لا يشكل تناقضا "هجينا" بل تكاملا طبيعيا أصيلا.

والفلسطيني إنسان لا يجوز إنكار إنسانيته، فهو مناضل في وقت النضال، وعاشق لمحبوبته تارة ، وساهر في الليل يتنسم عليله في جلسات السمر والاحتفال تارات أخر، فله الحياة كما للآخرين، فشعب فلسطين يكافح الاحتلال بحياته، وثقافته، ورغبته في تثبيت سلوكه هو على هذه الأرض لا سلوك الاحتلال، فلسنا شعب الخائفين البائسين، ولا أقواما نازحين تمتزج وجوههم بالخوف ومعاشرة الموت أو القتال والبطولة فقط؛ بل نحن شعب يحمل كل التفاصيل التي نجدها في كل مكان، يحذونا الأمل والرغبة في الحرية، وصخب رام الله الموصوف شكل آخر يقتل الاحتلال بإقبالنا على الحياة التي نشاؤها خارج إرادته التي يشاء لنا بأن نكون المنكوبين في كل ثانية، لا نجد في أرضنا فرحا ولا سرورا، وأن نرغب بالخروج منها والرحيل.

ولكل من يزاود بتلك الصورة النمطية على الفلسطيني عليه أن يتساءل أولا، أي دولة مناضلة تتحدث عن صخب الحياة في رام الله؟ وأي دولة مضحية لفلسطين أكثر من أبنائها؟ وأي دولة فلسطينية هي أكثر من فلسطين؟ تلك أسئلة أخلاقية تمليها التدخلات غير الدقيقة في حياتنا أمام كل من يحاول النيل من مصداقية "حالتنا الفلسطينية".

وإذا كان الموت يرضي البعض ويجعله قرير العين على مستقبل فلسطين بأنه لن يضيع، فليبق اسيرا لتلك الصورة، فصخب حياتنا أشد وطأة على الاحتلال من صمت الموت، في ظل ذاك الصخب النضالي من كل مكان في فلسطين الذي لا يجد حيزا في صحيفة أو فضائية تتذكرنا سوى في الموت أو الفضائح.

تقرير MBC ليس ضدنا، بل صخب كل الحياة التي نعيش في مواجهة إرادة الاحتلال، وليعلم كل من تابعه بأننا شعب له الوجود ولا يشعر باليأس أن يقارع الاحتلال بكل الحياة.