مغامرة في رمضان

قصف

يوم الثلاثاء في الساعة 11 ليلا، في أثناء المباراة بين البرازيل والمانيا، كانت شوارع غزة فارغة وليس بسبب المباراة. قبل بضعة أيام من ذلك، سجل في المقال على الشاطيء ازدحام تام، لرجال جاءوا لمشاهدة المباريات وتدخين النرجيلة على الشاطيء. اما هذا الاسبوع فقد بقي سكان غزة في منازلهم، خوفا من القصف الاسرائيلي.

مع بطالة تصل الى 44 في المئة، فقر مدقع في أوساط نحو ثلثي سكان القطاع، لم يصبح اليأس في القطاع أكثر راحة(ع)، محلل سياسي يسكن في غزة روى لي ضاحكا في مكالمة هاتفية من هناك فقال: «ان الناس يئسوا منذ المباراة الاولى كون الاغلبية هنا يتعاطفون مع البرازيل. وعلى حد قوله يتهم الغزي العادي اسرائيل في التدهور الاخير. الناس هنا يعتقدون بان نتنياهو يستغل الاختطاف كي ينهي المفاوضات مع ابو مازن ويضرب المصالحة وحماس. حتى الان نجح نتنياهو في مهمتين ـ ضرب المصالحة وانهاء المحادثات السياسية مع السلطة».

سألته ماذا تريد حماس لتحققه، إذ مع ذلك هي التي بادرت الى التصعيد. فقال: «قبل كل شيء بدء علاقات جديدة مع القاهرة. فقد أسموا هذه الحرب العاشر من رمضان. فهل تشبه أي حرب اخرى أخذت هذه التسمية؟ حرب يوم الغفران. وقالوا ان هذه هدية من الجيش المصري، بل انهم يتقدمون بمطالب لنقل لجرحى لتلقي العلاج في مصر. ففي نهاية المطاف، يريدون فتح معبر رفح وتثبيت علاقة جديدة مع الرئيس عبد الفتاح السيسي».

وقال: «حتى الان كانت حماس معزولة. لا يمكنهم ان يخرجوا من غزة على الاطلاق. فلم تعد هناك إنفاق. والاسعار ترتفع فقط والمصالحة اضرت بهم. الان هذا هو سبيلهم لتغيير هذه الصيغة. منذ بدأت الهجمات الاسرائيلية وهم يحصلون على الشعبية الكبيرة في الشارع الفلسطيني: فهم ينجحوا في اطلاق النار على تل ابيب، مثلما لم يفعل احد سوى صدام حسين. وقد اطلقوا النار نحو المفاعل في ديمونا، نحو حيفا. حماس الصغيرة نجحت في أن تدخل 5 مليون اسرائيلي الى الملاجئ. هذا انجاز هائل في نظر المواطن البسيط.

وفي هذه الاثناء يواصلون عمل كل ما يريدون. وحتى موظفي السلطة الفلسطينية (موظفي ابو مازن الذين يتلقون الرواتب) يخافون من التوجه الى البنوك لان المسلحين اطلقوا النار نحو الات سحب المال ونحو البنوك التي يحصلون منها على رواتبهم».

وعلى حد قوله، فان النشاط الاسرائيلي العدواني واصابة الابرياء تزيد التأييد للمنظمة فقط. «سيرغبون في اقامة حكومة جديدة، بعد أن ينتهي كل شيء. وهم يريدون أن يكونوا مرة اخرى على الخريطة لا من يتنازلون لابو مازن او لاسرائيل».

ومع ذلك، ليس مؤكدا على الاطلاق ان يكونوا في حماس قد بذلوا تفكيرا كبيرا في قرار الخروج الى الحرب. واضح أنه كان تقدير مسبق للسيناريو التالي: تخطيط لنار دقيقة وحملات خاصة. وفي الغالب فان مثل هذا القرار، حتى في منطقتنا تسبقه نقاشات، تفكير مسبق وربما ايضا استراتيجية خروج. والى جانب المبادر توجد بطبيعة الحال اهداف واضحة في قراره الخروج الى المعركة، تتعلق بالعدو الذي يقف أمامها. غير أن المواجهة الاخيرة بين حماس واسرائيل تكشف النقاب عن ظاهرة معروفة أقل في منطقتنا: كيان ارهابي، شبه عسكري، حماس، يطلب حربا مع عدو اقوى منه، ليس كي يدفعه الى الاستجابة لمطالبه، بل كي يؤدي بكيان ثالث ورابع للخضوع الى مطالبه.

انجرت حماس الى معركة دون تفكير زائد في نقطة الخروج منها على أمل أن تغير مصر نهجها نحوها وانطلاقا من قرار لانهاء المصالحة الفلسطينية الداخلية ونهائيا هذه المرة. ويبدو أن اسرائيل علقت دون رغبة منها في حرب بقاء المنظمة الغزية حيال مصر وحيال السلطة الفلسطينية.

 

لماذا الان؟

 

في التشديد المقصود للنار نحو اسرائيل في الايام ما قبل القتال يبدو كأمر اعتباطي ولد انطلاقا من فهم الواقع المتغير. واذا حاولنا للحظة فهم ما يحصل هنا في الاسابيع الاخيرة يبدو واضحا أن حماس عملت بشكل عفوي وليس حسب خطة مرتبة.

بداية كان اختطاف الفتيان الاسرائيليين الثلاثة على ايدي خلية من حماس في الخليل. لم يكن لاسرائيل أدلة على أن قيادة المنظمة في غزة أو في الخارج تقف خلف العملية. ولكن واضح أن يدا خفية استثمرت في هذه العملية غير قليل من المقدرات والاموال انطلاقا من النية لتنفيذ عملية مساومة – اختطاف اسرائيليين واجراء مفاوضات على تحريرهم.

وأدى الحدث الى حملة واسعة قام بها الجيش الاسرائيلي في الضفة الغربية وضربة لبنية حماس التحتية هناك – العسكرية والمدنية. مئات من رجال حماس يعتقلون، هيئات اقتصادية اغلقت والاسوأ بالنسبة للمنظمة: أكثر من 50 من اعضاء حماس ممن تحرروا في اطار صفقة شاليط، اعتقلوا من جديد. الانجاز الكبير الذي كان قبل اقل من ثلاث سنوات والمتمثل في تحرير 1.027 مقابل جندي اسرائيلي واحد، تشوش في اعقاب قرار اسرائيل معاقبة المنظمة على الاختطاف الاخير من خلال اعتقال رجالها الذين تحرروا منذ زمني غير بعيد. وفي هذه الاثناء عثر على جثث الفتيان. وبالتوازي، يجدر بنا ان نتذكر جهتين مركزيتين اخريين دفعتا حماس الى المبادرة الى الحرب. رسالة رئيس السلطة الفلسطينية ابو مازن الى المنظمة في اعقاب الاختطاف كانت فظة: عندما نفهم من يقف خلف قتل الثلاثة سنعاقبه. والى هذا ينبغي ان يضاف الوضع الصعب المستمر حيال مصر حين تكون الانفاق مغلقة والسلطات في القاهرة تتعامل مع حماس كعصبة من نشطاء الارهاب الذين يعرضون امن مصر للخطر وتفرض حصارا على غزة.

ولا يزال، حتى قتل الفتى الفلسطيني محمد ابو خضر لم يكن واضحا ان حماس تقصد الذهاب الى هناك. فالتقدير السائد في جهاز الامن في السنوات الاخيرة وحتى يوم الاثنين كان أن قيادة المنظمة في القطاع تسعى الى الحفاظ على حكمها في غزة بكل سبيل. يحتمل أن يكون رد فعل عرب اسرائيل الى جانب المواجهات القاسية في شرقي القدس دفعت قيادة حماس في غزة وفي الخارج الى أن تفهم بان لديها الان فرصة لاستغلال الزخم – الصعود على موجات العطف لكل اولئك الفلسطينيين الذين ارادوا الثأر.

يحتمل أن يكون هذا هو النهج الابتزازي الذي تتخذه حماس وحزب الله تجاه اسرائيل. بمعنى ان اطلاق الصواريخ على اسرائيل لن يلقى ردا عنيفا في ضوء تخوف في القدس وتل أبيب من الانزلاق الى حرب (نظرية بيت العنكبوت لحسن نصرالله في 2000.)

وكانت فرضية حماس على ما يبدو هي أنه من خلال القتال ضد اسرائيل ستتمكن المنظمة من حشد العطف في الجمهور الفلسطيني واحداث تغيير في النهج المصري نحو حماس – بما في ذلك فتح معبر رفح – واخيرا، بعد أن تنتهي جولة القتال الحالية، المبادرة الى اقامة حكومة جديدة في القطاع تقوم على اساس الفصائل والمنظمات تحظى بالتعاون من جانب القاهرة وكعقبى تترك عباس منعزلا في المقاطعة في رام الله بينما الشارع الفلسطيني يرى فيه عميلا لاسرائيل.

يوم الاحد انطلقت لاول مرة مطالب حماس لوقف النار تماما وبدا واضحا ان وجهة المنظمة نحو التصعيد. كانت هناك مطالب لا تتعلق على الاطلاق باسرائيل، مثل رفع الحصار عن غزة (فتح معبر رفح). ولكن في وزارة الدفاع في تل أبيب لم يلتقطوا بعد تغيير النهج هناك والقرار الذي اتخذ في التوجه نحو مواجهة شاملة. ومساء يوم الاثنين فقط فهموا في اسرائيل بان حماس لم تعد في ذات الحالة الفكرية التي كانت عليها في السنوات الاخيرة وهي تسعى عمليا الى التصعيد.

غرشون باسكين، الذي توسط بين حماس واسرائيل في صفقة شاليط، حاول في الايام الاخيرة ايضا تحقيق وقف مؤقت للنار. وباسكين، الذي لا يشتبه به بعطف زائد نحو معسكر اليمين في اسرائيل كتب عن ذلك في صفحته على الفيسبوك. في حديث معي يوم الاربعاء كرر مشددا: واضح لي انهم (حماس) لا يريدون وقف النار. كان لديهم في بداية التصعيد خيار، لنقل مطالبهم من اسرائيل عبر ابو مازن. وادعوا بانهم لم يختطفوا الثلاثة ولا علاقة لهم بهم. حسنا، لنقل. وادعوا بان اسرائيل استغلت الحدث كي تضربهم. يمكن أن نقبل ذلك ويمكن الا نقبله. ولكنهم ارادوا المبادرة الى رد فعل.

«كانوا يعلمون بان هجوما اسرائيليا على غزة سيعززهم جماهيريا. كما كانوا يعلمون بانه في ضوء الخلافات في داخل حماس، فان الامر الوحيد الذي سيوحد الجميع هو الصراع ضد اسرائيل. وأنه كلما ضربتهم اسرائيل بشدة أكبر، هذا سيعزز قوتهم. قبل أن يبدأ التصعيد حاولت أن اقنعهم بان نتنياهو صادق هذه المرة وقد يبادر الى خطوة برية. ولهذا عرضت عليهم الموافقة على وقف النار لـ 24 ساعة. هذا كل شيء، بدون مقابل، وفي اثنائها ينقلوا مطالبهم الى اسرائيل من خلال ابو مازن. ما كان هذا ليضر في شيء. ووصلت رسالتي حتى خالد مشعل. ولكن لم يكن هناك رد وبدلا من ذلك صعدوا النار. والان يقولون انهم يريدون تحرير مئات السجناء الذين اعتقلوا في اطار عملية الجيش الاسرائيلي بعد اختطاف الفتيان وبالاساس محرري شاليط اولئك الذين اعتقلوا من جديد».

وعلى حد قول باسكين، ففي الذراع السياسي والعسكري يوجد اليوم أشخاص غير راضين عن المصالحة مع ابو مازن ولا يريدونها. ويشرح بان يحتمل بان يكون هذا سبيلهم للتنكر لهذا الاتفاق.

 

في اعقاب نصرالله

 

مساء يوم الاربعاء القى في قطر رئيس المكتب السياسي خالد مشعل خطاب الافتتاح للحرب. وتضمن الخطاب غير قليل من التبجح والغرور بل ووعد فارغ من المضمون في أنه «اذا لم يوقف الاحتلال فان حيفا ستتفجر». فما الذي حاول مشعل قوله بالضبط، ليس واضحا. فقد نثر اساسا شعارات الى الهواء، دون أي ايضاح لشروط حماس لوقف النار. ذكرني خطابه بقدر كبير بخطيئة غرور الامين العام لحزب الله حسن نصرالله في بداية حرب لبنان الثانية. فبسكرة اختطاف الجنديين تبجح نصرالله المرة تلو الاخرى بقدرات منظمته العظيمة. وحظي بمكانة النجم الاعلى في لبنان وفي الدول العربية الاخرى. وبعد انتهاء الحرب فقط اعترف بخطأه وبدأ مكانته بين الجمهور العربي تضعف رويدا رويدا.

ليس واضحا كيف ستنتهي المواجهة الحالية في غزة. مشعل على ما يبدو سيواصل السكن بأمان في الدوحة وقيادة حماس التي تختبىء في الانفاق تحت غزة لن تصاب بأذى. الصواريخ ستواصل السقوط في اسرائيل، في الجنوب، في غوش دان وفي شمالها. ولكن من سيدفع الثمن الاكبر هو الجمهور الغزي، ذاك الذي يعانق حماس الان. ومثلما في حينه، بعد الحرب في 2006 مشكوك أن يواصل هؤلاء الناس عمل ذلك بعد وقف النار ايضا حين سيكتشفون بان شيئا تقريبا لن يتغير. غزة، أغلب الظن، ستبقى غزة حتى بعد هذه الحرب.

 

آفي يسسخروف

معاريف